زوجات المناضل وبناته.. بلا سكن
تبقى انتهاكات حقوق السكن الأراضي والممتلكات للنساء، الأكثر شيوعاً في سوريا وتتخذ أشكالاً متعددة. تلك النظرة السلبية لحقوق النساء في السكن الأرض والملكية، تنتشر لدى جميع الطبقات الاجتماعية، مهما كانت خلفياتها الثقافية. حتى أنها، تنتشر كممارسة لدى شريحة من المثقفين، كما يشير النص التالي، وهو قصة حقيقية.
لم يكن رجلاً تقليدياً، على الأقل هذا ما بدا عليه في البداية. إذ كان يلقي على مسامعها محاضرات في الحرية والاشتراكية، وسلطة رأس المال على حياة الأشخاص البسيطين. حتى أنه أقنعها بأنه يدرس في كلية التجارة والاقتصاد بالجامعة، ليحارب المنظومة من الداخل.
كانت صغيرة، لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها، وكان يكبرها بخمس سنوات. كانت تراه في قريتها كل عطلة نهاية الأسبوع، وفي عطلة الصيف. كانا يلتقيان مع أصدقائهما المشتركين في تجمعات محلية تهدف لتثقيف جيل القرية الجديد.
سنتان من الحب، قررا من بعدها الزواج. بالطبع، لم يوافق أهلها في البداية، لم يكن أحد غيرها مقتنع بأهلية رجل مثله للزواج وبناء أسرة. هو لا يعمل، ولم ينته بعد من دراسته الجامعية، وليس لديه سوى لسان فصيح، لا يصنع الخبز. لكنها لم تقتنع، وأصرت على الزواج به. فعلياً، تزوجته في المحكمة دون حفل أو عرس، وانتقلت للعيش معه في بيت مؤجر في أحد أحياء المدينة الشعبية الفقيرة القريبة من قريتهم.
في سنة الزواج الأولى، اكتشفت غلطها، فالرجل لا يعمل، ولا يدرس، ويقضي وقته في شرب الكحول وإلقاء المحاضرات على أصحابه وأهله حول مسؤولية الإمبريالية عن تفقيره. لا بل كان يضع اللوم على تخلف المجتمع غير المؤهل لتوظيف خبرته وذكائه. الرجل كان عنيفاً، لا يسمح لأحد أن يخالفه الرأي، يشتم ويعنف ويضرب كلما غضب.
بعد السنة الأولى اكتشفت الزوجة أنها حامل، وبدأت تفكر بشكل جديّ بمصير طفل في هذا البيت الذي يفتقر إلى الأساسيات. قرر أهلها مساعدتها، وتكفلا بغرفة الطفل ومصروفه. الأهل حاولا تأمين عمل لصهرهما في مؤسسة الإسكان العسكرية التابعة لوزارة الدفاع. بالفعل توظف الرجل، وبحكم علاقات سوريا مع الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات، تم تكليفه بمهمة في موسكو، وسافر غيبة طويلة.
طيلة فترة غيابه، لم يرسل مالاً لزوجته التي ولدت ابنتها في غيابه. لم يأت للزيارة. كان يرسل رسائل بريدية مقتضبة كل فترة يخبرها فيها عن سوء وضعه المادي، وأنه ربما يتمكن من العودة قريباً. لم تتمكن الزوجة من دفع الأجرة، فطردها صاحب الشقة، مع طفلتها الصغيرة، لتعودا للسكن في منزل والديها القروي.
بعد سنتين من عودتها، وما يقارب 5 رسائل من الزوج، انهار الاتحاد السوفياتي. اضطر الزوج حينها للعودة إلى سوريا. الزوجة المخدوعة، اكتشفت بعد عودته أنه طُرِدَ من عمله منذ زمن طويل، وكان خلال غيبته كان قد تزوّج سيدة روسية وعاش معها.
الزوجة طلبت منه الطلاق، فقبل، بشرط أن يكون من خلال دعوة تفريق تعفيه من جميع مسؤولياته المادية تجاهها وتجاه ابنتها، ومن ذلك عدم مسؤوليته عن تأمين منزل لهما. مقابل ذلك فقط، لن يطالب بحضانة ابنته.
قبلت الزوجة مرغمة، فذهبا إلى المحكمة وأعفته من نفقتها ونفقة ابنتها، وعادت إلى منزل والديها. الزوج تفاخر بطلاقه الحضاري، الذي انهى زواجه، من دون مشاكل وفضائح.
بعد شهور قليلة. قدمت السيدة الروسية التي كان يعيش معها الزوج إلى سوريا، لتعيش معه في منزل أهله في القرية ذاتها. الجميع توقعوا أن قدوم الزوجة الجديدة الأجنبية سيغيره، وسيدفعه لإيجاد عمل. لكن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر. بقي الزوج بلا عمل، وكانا يعيشان من مدخرات الزوجة الروسية. بعد سنتين شارفت مدخرات الزوجة الروسية على النفاذ، بعد ولادة ابنتهما.
الزوجة الروسية، قررت إعالة عائلتها الجديدة في بلد غريب. ببعض العربية التي تعلمتها، بدأت تعليم الأطفال دروساً في الرسم والموسيقى. الزوجة الروسية كانت تعمل يومياً منذ الصباح وإلى المساء، لتأمين مصروف العائلة. الزوجة كانت تخطط وتجمع من دخلها الصغير مبلغاً لتأمين مصروف ابنتها في الجامعة في روسيا، أو هذا ما اعتقدته. إذ قبل السفر بأيام، اختفت حصيلة عمر الزوجة الروسية المخصصة لدراسة الابنة، من دون معرفة السارق.
الزوجة الروسية أخذت ابنتها وعادت إلى روسيا، وأقامت فترة عند عائلتها حتى تمكنت من إيجاد عمل، واستئجار منزل صغير، وإلحاق ابنتها في إحدى الجامعات بمساعدة جدتها.
الابنة الثانية كبرت أيضاً، وسافرت وتعلمت. بينما لا يزال الأب، في منزل أهله في القرية، يجمع حوله بعض المريدين، يُلقي خطباً في الاشتراكية وخطر الامبريالية والغول الأميركي على حقوق البشر وخياراتها. ما زال بدون عمل، ومن دون بيت، ولم يمنح أياً من زوجتيه أو ابنتيه منها، أي فرصة للسكن في مكان آمن. فهو مناضل، لا يريد لهذه التفاصيل أن تلهيه عن القضية.