من يخدم حريق ساروجة؟
تعرض جزء من حي ساروجة الأثري بدمشق لحريق، فجر يوم 16 تموز 2023، خلال موجة حرّ طالت معظم المناطق السورية وتسببت بحرائق متعددة منها حريق الغابة الحراجية على قمة جبل المزة يوم 15 تموز. حريق حي ساروجة تسبب بدمار واسع لعدد من المنازل الدمشقية القديمة التي كانت تستخدم كسكن، أو كورشات صناعية صغيرة للجلود والأحذية ومواد تصنيعها وهو ما ساهم في سرعة انتشار النيران.
وطال الحريق منزلاً يعود تاريخ إنشائه إلى القرن التاسع عشر، وكان يقطنه آخر أمير للحج في عهد السلطنة العثمانية عبدالرحمن باشا اليوسف، والذي قُتل في العام 1920. كما تضرر من الحريق منزل خالد العظم، السياسي الدمشقي وآخر رئيس لحكومة منتخبة ديمقراطياً قبل الانقلاب العسكري لحزب البعث في العام 1963. ويعود تاريخ بناء منزل العظم إلى القرن الثامن عشر، واستخدم جزء منه كمتحف للوثائق التاريخية.
يعود نشوء حي ساروجة إلى الحقبة المملوكية وينسب إلى الأمير المملوكي صارم الدين ساروجة المتوفي في العام 1342. بُنِيَ الحي شمال غربي دمشق القديمة، وخارج سورها الأثري. وقد كان الحي وجهة لأمراء المماليك، وفيه أشادوا القصور والمدارس والمساجد والحمامات. في الحقبة العثمانية أقيم في الحي مسكن لكبار موظفي السلطنة بدمشق، وقد تسبب ذلك بتوسعه على نمط العمارة العثمانية وتسميته باستانبول الصغرى. بعد انتهاء الانتداب الفرنسي لسوريا في العام 1946 تحول الحي إلى مركز تجمع للبرجوازية الدمشقية.
ومع استيلاء حزب البعث على الحكم في العام 1963، بدأ تهميش الحي لأسباب عقائدية بوصفه منطقة برجوازية يُخشى من ميولها الديموقراطية. حزب البعث لم يتردد في تجريد رموز تلك البرجوازية من سكان الحي من أملاكهم، ما تسبب بترك الكثير من السكان للحي الأمر الذي انعكس على نسيجه الاجتماعي-العمراني. وبالتزامن مع موجة التأميم والإصلاح الزراعي في تلك المرحلة، صدر في العام 1968 مخطط دمشق التنظيمي، المعروف باسم مخطط المعماري الفرنسي ميشيل ايكوشار Michel Écochar. المخطط مال إلى التخطيط والتنظيم الحديث للمدينة المعاصرة، أكثر من المحافظة على نسيجها الأثري القديم ومنها حي ساروجة.
وبموجب مخطط ايكوشار وتعديلاته اللاحقة، استملكت محافظة دمشق في السبعينيات والثمانينات أجزاء كبيرة من الحي، بغرض انشاء مرافق للنفع العام، كشوارع ومحاور مرورية، ومواقع لبناء مؤسسات حكومية وتجارية. في نهاية السبعينيات شقت المحافظة شارع الثورة الذي قسم الحي شرقاً وغرباً، واستملكت الأراضي اللازمة لشقه، والأبنية الطابقية على جانبيه. وفعلياً، تم الاستملاك من دون تعويض، أو بتأخير كبير في دفع مستحقات المتضررين. كما تم هدم بعض المنازل الأثرية في الحي، وأقيم مكانها منشآت حديثة وأبراج ضخمة، ومنها بناء دائرة المصالح العقارية وسوق الخجا، ومنحت المحافظة أراضي محلة البحصة غرباً لتجار البناء ليقيموا عليها أبنية تجارية وفنادق.
مخطط ايكوشار وتعديلاته اللاحقة، لحظ أيضاً شق محور مروري وتجاري رئيسي ضمن ساروجة باسم شارع الملك فيصل، ولكنه لم ينفذ بعد. والهدف منذ هذا المحور هو شق محور مروري من وسط دمشق إلى شرقها يتاخم السور الشمالي لدمشق القديمة. ولكن تنفيذ هذا المحور يتضمن استملاك جزء كبير من أراضي ساروجة، وإزالة الجزء الجنوبي من الحي للوصل بين شارع الثورة وساحة باب توما. وقد أعيد النقاش حول هذا المحور أكثر من مرة خلال السنوات السابقة للعام 2011، وتم تعديل الفكرة أكثر من مرة، بحيث يصبح محوراً مرورياً وسياحياً، ويترافق مع تغيير الصفة التنظيمية للمنطقة إلى سياحية. ومع ذلك، قد تمت عرقلة هذا المشروع بضغط من سكان الحي بالتعاون مع كتاب وصحفيين وآثاريين.
وفي مواجهة الرفض الشعبي لشق الشارع، لجأت محافظة دمشق منذ الثمانينيات إلى منع اصدار رخص الترميم في كامل الحي، واعتبار أي عملية ترميم من دون ترخيص هي مخالفة لا بد من إزالتها فوراً. وبذلك بدأ الحي يتحول إلى منطقة تعاني من الإهمال الشديد وفيها خرائب قديمة بحاجة ماسة للترميم. محافظة دمشق، بحسب مصادر سيريا ريبورت، تلجأ لهذا الأسلوب عندما تواجه رفضاً لتنفيذ قرار استملاك ما. وقد تسبب ذلك بانهيار أكثر من بناء في الحي، كما حدث في شباط 2019 عندما انهار منزل بسبب الأمطار. في العام 2007 قتل شخص واحد عندما انهار عليه السقف المتهالك لمنزله والذي رفضت المحافظة منح ترخيص لترميمه.
منذ العام 2011، عاش الحي اهمالاً مضاعفاً، خاصة أن جزءاً من سكانه لم يكونوا بعيدين عن الاحتجاجات المعارضة للنظام. لذلك، تشددت المحافظة في قمع المخالفات، وتقديم الحد الأدنى من الخدمات، وغياب كامل لوسائل السلامة والدفاع المدني، من شبكة اطفاء حريق في حي قديم لا يمكن لسيارات الإطفاء المناورة في شوارعه الضيقة.
ساروجة مثل كل المناطق الدمشقية تشهد حرائق متكررة في مواسم الحر الأخيرة، يساعد فيها انتشار شبكات الكهرباء العشوائية. كما أن برامج التقنين الكهربائي الجائرة التي تصل إلى 5 ساعات قطع مقابل ساعة وصل، تضيف أحمالاً كهربائية على مجموعات التحويل الكهربائية بسبب الاستجرار الزائد في فترة التزويد القصيرة.
وبالترافق مع حرارة الجو العالية وسوء الصيانة، تنفجر بعض المحولات وتتسبب في اندلاع الحرائق وانتشارها. ورغم مطالبة سكان الحي، بتحسين الخدمات وإعادة تأهيل شبكات الكهرباء، إلا أنهم طالما قوبلوا بإهمال حكومي ورسمي. وقد لا يكون ذلك مقصوداً ضد ساروجة بشكل مباشر، بقدر ما يتعلق بالفساد والترهل في محافظة دمشق، ونقص التمويل، وسوء التخطيط وانخفاض مستوى الكفاءة.
وعدا عن الاستملاكات، فإن بعض الأبنية المحترقة مصنفة أثرية. وفي حالتي الاستملاك والتصنيف الأثري، يمنع على أصحاب تلك العقارات التصرف بها أو ترميمها أو التجديد فيها. وهذا ما جعل من تلك الأبنية محل نزاع بين الدولة وبين مالكيها الأصليين المتضررين، وهناك قضايا كثيرة ما زالت عالقة في المحاكم منذ عشرات السنين بين الطرفين. وبسبب منع التصرف، نشأت مشاكل بين ورثة أصحاب تلك العقارات، ومشاكل بين المؤجرين والمستأجرين القدماء الرافضين للإخلاء.
مصدر من محافظة دمشق، قال لسيريا ريبورت، إن حال الملكيات في حي ساروجة، كمثل كثير من مناطق دمشق التاريخية، عبارة عن كتلة كبيرة من الإشكاليات القانونية غير القابلة للحل والمتراكمة عبر عشرات السنين. وإذ يشير المصدر، إلى أن الحريق على الأغلب غير متعمد، إلا أن نتائجه قد تخدم أكثر من طرف. إذ ترغب محافظة دمشق بالانتهاء من القضايا العالقة والانتقال إلى تنفيذ الاستملاك وإقامة مشاريع تجارية وسياحية، كما أن بعض أصحاب العقارات يستفيدون من حرقها في إزالة صفة الأثرية عنها للسماح لهم بالبناء في موقعها.