تأثير بعض العوامل الرئيسية المتعلقة بالسكن والأرض والملكية على عودة النازحين خلال النصف الأول من عام 2022
تُلخّصُ سيريا ريبورت، في هذا التقرير، بعض قضايا حقوق السكن والأرض والملكية، التي تابعتها بعمق خلال الشهور الستة الأولى من العام 2022. وهذه القضايا، التي كتبنا عنها عشرات المقالات، يمكن تصنيفها ضمن المحاور الرئيسية التالية:
أولاً، العوائق والتحديات التي تحول دون عودة النازحين إلى المناطق التي شهدت تهجيراً قسرياً بعد سيطرة قوات النظام عليها. وثانياً، آثار المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2022، المتضمن عفواً عاماً عن “الجرائم الإرهابية” المرتكبة قبل تاريخ صدوره، على حقوق السكن والأرض والملكية. وثالثاً، الأضرار التي خلفها القصف السابق على مناطق المعارضة.
المحور الأول: هل من عودة للنازحين والمهجرين قسريا واللاجئين إلى مناطق سيطرة النظام؟ هل يُسهل النظام أم يعرقل عودتهم؟ وما هي أبرز تأثيرات سياسات السكن والأرض والملكية على عودتهم؟
ما زالت الشروط الأمنية والانشائية، وكذلك نسب الدمار الكبيرة، تعتبر من العوائق الأبرز أمام عودة النازحين خاصة إلى المناطق التي شهدت تهجيراً قسرياً بعد سيطرة قوات النظام عليها. كما ظهرت نزعة رائجة لدى السلطات البلدية المحلية في المبالغة بأعداد النازحين العائدين، ربما لتوظيفها كدليل على الاستقرار السياسي والأمني لمناطق سيطرة الحكومة، وأيضاً لتشجيع المنظمات غير الحكومية على تمويل مشاريع إعادة الإعمار والتعافي المبكر. ويجري ذلك بالتزامن مع تحوّل المزادات العلنية لاستثمار أملاك الغائبين من المُهجرين قسرياً إلى مناطق المعارضة، إلى أمر روتيني سنوي، وسط مخاوف من تشريع عملية الاستيلاء عليها.
1- الموافقات الأمنية وتقارير لجان السلامة العامة وضعف الخدمات
ما زالت العودة صعبة إلى بعض المناطق التي خضعت لتهجير قسري لسكانها، ومعظمها متضرر من العمليات القتالية. إذ يجب تحقيق مجموعة من الشروط المسبقة قبل الحصول على الموافقة النهائية بالعودة. وفي حال الحصول على تلك الموافقة، تبقى العودة مرهونة بتأهيل تلك المناطق وتزويدها بالخدمات الرئيسية.
ومن الشروط تقديم ملف يتضمن استمارة، والوثائق التي تثبت ملكية المنزل المطلوب العودة إليه، بالإضافة إلى إخراج قيد عائلي، وصور عن البطاقات الشخصية لأفراد العائلة. وبعد ذلك، تتم دراسة الملف من قبل الأجهزة الأمنية، والتي تُصدر موافقتها أو رفضها. وفي حال الحصول على الموافقة الأمنية، يتوجب على النازحين واللاجئين الراغبين بالعودة الحصول أيضاً على تقرير هندسي من لجان السلامة العامة في مجلس الوحدة الإدارية المعنية، يفيد بأن المنزل سليم إنشائياً وقابل للسكن. وفي حال كان البناء سليماً انشائياً وصالحاً للسكن، يتوجب على صاحب العقار التقدم بطلب للحصول على إذن لترميم البناء من البلدية.
وليس هناك من تعريف واضح للجان السلامة العامة، ولا توصيف موحد واضح لمهامها وطبيعة عملها. وتثير آلية عمل تلك اللجان شكوكاً حول حياديتها والمعايير الهندسية التي تتبعها، وسط اتهامات لها من المعارضة بالخضوع لتدخلات الأجهزة الأمنية. وباتت تلك اللجان مسؤولة عن تحديد مستويات المخاطر على بناء ما، وعن تقديم توصيات تتراوح بين إزالته أو تدعيمه، أو الإبقاء عليه بصورته الراهنة. وجرت حملة في نيسان 2022 في أحياء مدينة حلب الغربية لهدم عقارات لنازحين، بموجب تقارير لجان السلامة العامة بدعوى أنها مُخالفة أو آيلة للسقوط. لكن اقتصار الحملة على عقارات يملكها غائبون، معظمهم مُهجّرين قسرياً، إلى مناطق المعارضة، أثار شكوكاً حول تسييس علم لجان السلامة العامة.
ومن أكثر المناطق التي اقترنت فيها عودة النازحين بالحصول على تقارير السلامة الإنشائية كانت في مخيم اليرموك والتضامن بدمشق، والحجر الأسود بريف دمشق. وتقول السلطات البلدية في تلك المناطق بأنها تقدّم تسهيلات للراغبين بالعودة من النازحين، ومن ذلك الاستعاضة عن وثيقة الملكية عن المنزل المطلوب العودة إليه، بفاتورة كهرباء أو ماء مدفوعة. ومع ذلك، ما زالت أعداد العائدين المسموح لهم بالعودة ضئيلة للغاية. على سبيل المثال، حتى منتصف آذار 2022 تمت الموافقة على عودة 300 عائلة فقط إلى مدينة الحجر الأسود، من أصل 1350 عائلة قدّمت ملفاتها. ومن الـ300 عائلة، تمكّنت أربعون عائلة فقط من العودة والاستقرار في الحجر الأسود بسبب ضعف الخدمات المقدمة وصعوبة الوضع المعاشي. وبحلول مطلع آب 2022، بلغ عدد العائلات المتقدمة بطلبات للعودة حوالي 2100 عائلة، تمت الموافقة منها على 700 طلب، وبلغ عدد العائلات التي عادت للاستقرار فعلياً نحو 90 عائلة فقط.
وحتى بعد الحصول على الموافقة الأمنية، هناك بعض العقبات الموضوعية التي تحول دون عودة كثير من النازحين إلى المناطق المتضررة من العمليات القتالية، وأبرزها حملات الهدم الممنهجة والمتواصلة الأخيرة، وإن كانت بوتيرة منخفضة، لمناطق سكنية، كما يحدث في التضامن بدمشق. كما أن استمرار وجود الأنقاض يحول دون الوصول إلى كثير من المناطق السكنية. هذا بالاضافة إلى ضعف الخدمات والدمار الكبير الذي لحق بالبنى التحتية لشبكات الماء والصرف الصحي والكهرباء، وعدم تأهيل وإعادة افتتاح المدارس. وأيضاً، استمرار عمليات التعفيش عبر ورشات صغيرة محسوبة على أجهزة الأمن المسيطرة. وتواصل تلك الورشات هدم أسقف بعض المنازل وسحب الحديد منها.
2- التلاعب بالأرقام
تبدو سمة المبالغة قرينة بإعلانات السلطات البلدية المحلية عن عودة النازحين، وكمثال على ذلك ما يحدث في مدينة حمص وريفها الشمالي. وقد تكون البروباغاندا الإعلامية الرسمية أحد أبرز أسباب تلك المبالغات: أولاً، في معرض السعي لإظهار عودة النازحين دليلاً على الاستقرار السياسي والأمني لمناطق سيطرة الحكومة، ولتشجيع المنظمات الدولية، مباشرة أو عبر المنظمات غير الحكومية المحلية، لتمويل مشاريع إعادة الأعمار والتعافي المبكر.
في بعض الحالات، تتم المبالغة عبر التلاعب بأعداد النازحين عن منطقة ما وحصرها بمن غادروها فقط خلال فترة سيطرة المعارضة. وهذا يعني حصر النازحين بالموالين للنظام، والذين عادت نسبة كبيرة منهم بعد التهجير القسري للمعارضة. أبرز مثال على ذلك، عندما قال رئيس مجلس مدينة الرستن شمالي حمص، في أيار، بأن نحو 16 ألف نسمة عادوا إلى منازلهم من أصل نحو 20 ألف نسمة كانوا قد هجروها. ولكن بحسب مصادر سيريا ريبورت، فإن عدد سكان الرستن كان يقدر في العام 2011 بنحو 85 ألف نسمة، وخلال فترة حصار قوات النظام للرستن أثناء سيطرة المعارضة عليها بين العامين 2012-2018، نزح عنها حوالي 30 ألفاً توجه نحو 20 ألفاً منهم إلى مناطق سيطرة النظام. وبعد اتفاق المصالحة في أيار 2018، تمّ تهجير نحو 25 ألف نسمة إلى مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري. وبذلك، بقي في الرستن نحو 30 ألف نسمة. وفعلياً، الـ16 ألف نازح العائدين، هم من أصل 55 ألف نازح، لا من أصل 20 ألفاً كما قال رئيس مجلس الرستن. كما أن نسبة كبيرة من أولئك النازحين العائدين، لم يعودوا للاستقرار بشكل دائم في الرستن، بل عادوا للزيارة ولتفقد أملاكهم. إذ أن المنطقة غير مؤهلة بعد لعودة النازحين واستقرارهم فيها، وأغلب أحياء المدينة مدمرة. كما أن تكاليف عمليات الترميم تفوق قدرة أغلب الأهالي.
أمر مماثل حدث في مدينة حمص، عندما أصدر مجلس المدينة، في شباط وآذار 2022، تصريحات حول أعداد العائدين إلى منازلهم في بعض الأحياء المتضررة. تلك التصريحات الرسمية اعتمدت على إحصاء غريب أساسه عدد العائلات العائدة، بدلاً من مجموع العائدين. وبحسب تلك الإحصاءات يكفي أن يعود شخص واحد من عائلة ما، لتصبح كامل العائلة وقد عادت. الأكثر غرابة أن الأرقام التي أصدرها المجلس المحلي تضمنت ليس فقط أعداد العائلات العائدة، بل أيضاً نسبتها المئوية من عدد العائلات النازحة. وعدا أن هذا الأساس للاحصاء غير واقعي، فإنه يبدو مقصوداً للإيحاء بأن أرقام العائدين كبيرة.
3- استثمار أملاك الغائبين
مرّت أربع سنوات على اطلاق ما بات يُعرف باستثمار أملاك الغائبين عبر المزادات العلنية، خاصة في أرياف حماة وإدلب وديرالزور وحلب. ويدل ذلك على تحول عملية الاستثمار لممتلكات المُهجرين قسرياً إلى مناطق المعارضة، إلى أمر روتيني سنوي وسط مخاوف من إمكانية الاستيلاء عليها بشكل قانوني.
إذ أن جزءاً كبيراً من تلك الأملاك هي أراضِ أميرية كان قد تم توزيعها على الفلاحين بموجب قوانين الاصلاح الزراعي. وبالتالي، فإن أكثر ما يثير المخاوف هو إمكانية تطبيق المادة 775 من القانون المدني، والتي تنص على سقوط حق التصرف في العقارات الأميرية بعدم حراثة الأرض، أو بعدم استعمالها مدة خمس سنوات. ويعني ذلك استردادها لتعود من أملاك الدولة إذا استمرت عملية استثمارها بنفس الطريقة للموسم الزراعي المقبل.
وأطلقت محافظة حماة، في أيار، سلسلة مزادات جديدة، لاستثمار أراضي الغائبين. وكانت لجان مكانية فنية في محافظة حماة قد عملت خلال الشتاء الماضي على إحصاء أملاك الغائبين، تمهيداً لطرحها للاستثمار في المزادات العلنية. وبناء على نتائج الإحصاء، أصدرت محافظة حماة، في 26 نيسان، جداول بالأراضي المطروحة للاستثمار في الموسم الزراعي 2022.
كانت محافظة حماة قد أصدرت إنذاراً نهائياً، في شباط 2022، للمستثمرين الذين لم يسددوا التزاماتهم المالية، بضرورة مراجعة الأمانة العامة للمحافظة ودفع المستحقات المترتبة عليهم قبل آذار 2022. والملفت أن وزارة المالية فرضت، في أيار، أول حجز احتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة لأحد المستثمرين المتخلفين عن سداد قيمة عقد استثمار لأرض مزروعة بالفستق الحلبي في خطوة تهدف لتحذير بقية المستثمرين ودفعهم للوفاء بالتزاماتهم المالية.
ومن أسباب تراجع بعض المستثمرين عن زراعة الأرض التي رست عليهم بالمزادات: عدم استلام كثير منهم لكميات الوقود اللازمة لتشغيل المضخات لسقاية الأراضي المروية. وكذلك ارتفاع أجور حراثة الأرض، وعدم التزام أصحاب الجرارات بالتسعيرة الرسمية للحراثة. وفي حالات متعددة لم يتمكن المستثمرون من تأمين البذار اللازمة للزراعة لغلاء الأسعار أو لعدم توفرها. وإلى كل الأسباب السابقة، يُضاف أيضاً ارتفاع تكاليف النقل الخاصة والتعقيدات البيروقراطية والأمنية لمرافقة للحصول على الأوراق الرسمية، وتعطل الآبار وغياب الكهرباء، ورفض المصرف الزراعي تقديم القروض للمستثمرين.
أيضاً، تتواصل للعام الثاني على التوالي، عملية استثمار أراضي الغائبين في مناطق سيطرة النظام في ريف الرقة. ومعظم أولئك الغائبين هم من النازحين إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية في ريف الرقة. ورغم التشابه في الشكل، إلا أن عملية الاستثمار في ناحيتي السبخة ومعدان بريف الرقة تحمل بعض الاختلافات البسيطة عن مثيلاتها في أرياف حماة وإدلب. على سبيل المثال، تسمى العملية برمتها تأجيراً لا استثماراً. كما، لم يُذكر في الإعلان الوحيد الذي نشرته الرابطة الفلاحية في الرقة، في آذار 2021، موضوع الغائبين إطلاقاً، ولا موقع الأرض المُراد تأجيرها ولا نوع الموسم الزراعي المطلوب. عملية التأجير للموسم الزراعي الجاري، التي تمت مطلع العام 2022، جرت من دون عقد مزاد علني، بل تمّ تجديد بعض العقود السابقة مع ذات المستأجرين للموسم الزراعي الماضي. في بعض الحالات التي رفض فيها مستأجرون سابقون تجديد عقودهم، تم تأجير الأرض لبعض قادة الميليشيات الموالية للنظام في المنطقة. ويعود ضعف الإقبال على المزادات، إلى قوة العلاقات القرابية العشائرية بين أهالي المنطقة، إذ يستهجن الأهالي حدوث هذا النوع من الشرخ الاجتماعي بين المقيمين والنازحين، وكلهم من أبناء عشائر المنطقة.
استثمار أملاك الغائبين لم ينحصر بالأراضي الزراعية فقط، بل انتقل أيضاً إلى المسامك في سهل الغاب بريف حماة. ويقوم حالياً ضباط في قوات النظام باستثمار بعض تلك المسامك لحسابهم الخاص.
وفي خطوة تبدو مماثلة للاستيلاء على أملاك الغائبين، دعت محافظة دمشق، في شباط، شاغلي المحال في سوق اللحوم المركزي بالزبلطاني إلى مراجعة مديرية شؤون الأملاك التابعة للمحافظة، خلال مدة شهر من تاريخه، وتقديم ثبوتياتهم معتبرة أن عدم المراجعة سيعتبر بمثابة تخل من أصحاب المحال عن عقود الإيجار أو الاستثمار. وبعض تجار السوق من المحسوبين على المعارضة، ومنهم من تم تهجيرهم إلى الشمال السوري، ومنهم من بات لاجئاً خارج سوريا. كما طلبت محافظة دمشق مؤخراً، الوثائق الثبوتية من جميع تجار سوق الهال أيضاً.
المحور الثاني: ما هو تأثير مرسوم العفو الأخير؟
أصدر الرئيس السوري المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2022، المتضمن عفواً عاماً عما وصفه بـ”الجرائم الإرهابية” المرتكبة قبل تاريخ صدوره، باستثناء “الجرائم” التي أفضت إلى موت إنسان. ويشمل مرسوم العفو “الجرائم” المنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012.
أي أن مرسوم العفو عن الجرائم المنصوص عليها في القانون 19، تضمن إطلاق سراح المتهمين أمام محكمة الإرهاب الذين شملهم المرسوم، إلى جانب إيقاف متابعة محاكمة الموقوفين وإطلاق سراحهم، كما أوقف تعميم لاحق صادر عن وزارة العدل الملاحقات الأمنية لبعض المتهمين المطلوب اعتقالهم. لكن، لا يبدو أن لهذا المرسوم أثر كبير على حقوق السكن والأرض والملكية، إذ لم يتضمن إلغاء عقوبة مصادرة أملاك المحكومين أمام محكمة الإرهاب، الذين يشملهم العفو.
وبحسب المادة 12 من قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012 يحق لمحكمة الإرهاب أن تحكم بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة للمتهمين المدانين أمامها. ويفترض أن يصدر حكم نهائي في المصادرة، لكن قانون الإرهاب أعطى محكمة الإرهاب صلاحية إصدار قرار تجميد أموال المتهم بالإرهاب عند صدور حكم الإدانة، ثم تنقلب إلى مصادرة بعد صدور الحكم النهائي أي حجزها تنفيذياً. وتُصنّفُ المصادرة وفقاً لقانون العقوبات ضمن العقوبات المالية الإضافية، التي يتم بموجبها نزع ملكية المحكوم عليه جبراً ليصبح ملكاً للدولة من غير مقابل.
ولكن، قانون العفو رقم 7، لم يتضمن إلغاء حكم المصادرة، ما يعني أن الأملاك المصادرة تبقى ملكيتها لصالح الدولة. بل، اقتصر المرسوم 7 على إسقاط العقوبة ودعاوى الحق العام فقط، ولم يشمل دعاوى الحق الشخصي أو الحق بالتعويض عن الضرر اللاحق بالمجني عليهم. أي، شمل العفو عقوبة الغرامة فقط، لا عقوبة المصادرة ولا التعويضات المالية للمجني عليهم من المُدّعين شخصياً.
من جانب آخر، ومع وجود آلاف المفقودين المغيّبين قسراً في المعتقلات السورية، يبرز السؤال عن تأثير قانون العفو على حقوقهم في السكن والأرض والملكية، إن عادوا أو ظهروا أحياءً. وبحسب قانون الأحوال الشخصية، فالمفقود هو الشخص الذي لا يُعرف إن كان حياً أو ميتاً، أو الشخص الحي الذي لا يُعرف له مكان. وينتهي الفقدان بعودة المفقود، أو بموته، أو بالحكم باعتباره ميتاً. وإذا ظهر المفقود حياً بعد الحكم بوفاته، وكانت أملاكه قد وزّعت بين الورثة، فإنه يستردها، وكذلك يسترد ما استحق له من إرث من أقاربه المتوفين. وهناك شرط وحيد لذلك: أن تكون تلك الأموال والممتلكات ما تزال موجودة. أي لا يسترد المفقود إلا ما بقي من هذه الأموال، أما ما تصرف به الورثة أو استهلكوه فلا يسترد منه شيئاً. ويعود ذلك لأن الورثة لم يستولوا على أموال وممتلكات المفقود غصباً من تلقاء ذاتهم، بل بناءً على حكم قضائي.
المحور الثالث: ما تأثير القصف السابق ومخلفات الحرب على حقوق السكن والأرض والملكية؟
تُشكّلُ الأضرار التي خلفها القصف السابق على مناطق المعارضة، خطراً كبيراً على حياة السكان، وأيضاً على حقوق السكن والأرض والملكية. إذ أن القصف المُتكرر بالصواريخ الارتجاجية والفراغية والبراميل المتفجرة، كان قد تسبب بأضرار “غير مباشرة” على الأبنية التي لم تتعرض للقصف بحد ذاتها. بعض تلك الأضرار غير مرئي طال أساسات الأبنية، وبعضها مرئي كالتشققات في الجدران والأعمدة والسقوف. وتتناسب الأضرار غير المباشرة مع قوة الانفجار والقرب منه. ومن الممكن ظهور تلك الأضرار على الأبنية بعد فترة من حدوثها. كما قد تتراكم تلك الأضرار، وقد تتسبب بانهيار الأبنية بشكل مُفاجئ من دون سبب مباشر، أو بسبب إعمال إعادة تأهيل المباني وإزالة الأنقاض منها.
وتعتبر مناطق التماس الحالية بين قوات المعارضة والنظام جنوبي إدلب من أكثر المناطق التي تعرضت فيها الأبنية، وما تزال، لأضرار القصف غير المباشرة. والمنطقة ريفية، ونسبة كبيرة من منازلها قديمة مبنية من الحجر والطين، بينما البناء الاسمنتي فيها، ما قبل العام 2011، غالباً ما كان فوضوياً لا يتبع جميع قواعد السلامة الإنشائية. معظم تلك الأبنية تفتقد للعزل الحراري والمائي ما يعرض أساساتها للتآكل والصدأ، ما يزيد من احتمال تعرضها لأضرار القصف غير المباشر. كثير من السكان يضطرون للبقاء في منازلهم المتضررة، رغم علمهم بالمخاطر المحدقة بسبب عدم توفر البدائل. الانتقال إلى بيوت سليمة تعني تحمّل تكاليف إيجار مرتفعة، في حين أن تكاليف الترميم تبدو خارج متناول كثير من السكان.
إلا أن الأضرار غير المباشرة للقصف تتجاوز خطوط التماس الحالية، وباتت ملحوظة في معظم مناطق المعارضة سابقاً والتي استعادتها قوات النظام بعد عمليات عسكرية عنيفة تسببت بتدمير أجزاء منها وتهجير سكانها. في نيسان 2022، انهار بناء مكون من أربع طوابق في مدينة داريا بريف دمشق، ما تسبب بمقتل شخصين. والمبنى لم يكن متضرراً بشكل مباشر من العمليات القتالية السابقة، ما يرجّح أن سبب الانهيار يعود إلى الأضرار غير المباشرة للقصف السابق لقوات النظام على المنطقة أثناء سيطرة المعارضة عليها ما بين العامين 2012-2016. ويبدو بأن المبنى قد انهار أثناء قيام أصحابه بإزالة الأنقاض من الطابق الأرضي بغرض إعادة تأهيله. ولم يسبق أن كشفت لجنة السلامة العامة التابعة لبلدية داريا على البناء.
في أيار 2022، قُتِلَ أربعة أشخاص في انهيار سقف مبنى متصدع في حي جوبر الدمشقي. وكان أولئك الأشخاص يعملون في نبش الأنقاض، أي جمع المواد القابلة للبيع أو لإعادة التدوير من الأنقاض. ويقوم النباشون عادة باستخدام مطارق ثقيلة لسحب الحديد من البيتون، أو لتفتيت كتل الأنقاض الكبيرة للبحث تحتها.
في المقابل، يُنظّم مجلس مدينة حلب حملات دورية لهدم الأبنية الآيلة للسقوط. في آذار 2022، أطلق مجلس مدينة حلب حملة هدم في حي الصالحين في حلب الشرقية، قبل أن تتوسع لتشمل الأحياء المجاورة. وغالباً، ما تنسب لجان السلامة العامة ظهور التصدعات الحديثة في الأبنية إلى أسباب مختلفة لا تتعلق بالعمليات العسكرية والقصف السابق، مثل ارتفاع منسوب المياه الجوفية في المنطقة بعد الأمطار، أو لأن تلك الأبنية مخالفة لا تراعي قواعد السلامة الانشائية. ويتسبب ذلك، بحسب اللجان، بحدوث هبوط بالتربة تحت أساسات الأبنية، وظهور تشققات وميلان في الأبنية فوق سطح الأرض. مصدر في مجلس مدينة حلب، كان قد قال لمراسل سيريا ريبورت، بإن هناك زيادة ملحوظة في عدد المباني التي بدأت تظهر عليها التصدعات بسبب القصف السابق على المنطقة. وقد ظهرت تلك التصدعات أيضاً على الكثير من المباني التي كانت لجنة السلامة العامة قد سمحت لأصحابها بترميمها في وقت سابق من العامين 2017 و2018. ويؤكد المصدر بأن الأساسات العمرانية في الأحياء الشرقية متضررة بشدة، وما هي إلا مسألة وقت حتى تظهر التصدعات على كثير من الأبنية التي تبدو الآن صالحة للسكن حتى اللحظة.
في شباط 2022، أزال مجلس مدينة حلب، بناءً سكنياً مؤلفاً من خمسة طوابق في حي مساكن هنانو في حلب الشرقية، لأنه متصدع وآيل للسقوط. وسبق أن تقدّم السكان بمناشدة إلى مجلس المدينة، مطلع العام 2021، أبلغوا فيها عن وجود تصدعات حديثة في البناء. لكن مجلس المدينة، وبعد الكشف على المبنى، قال بإن الأساسات جيدة ولا خطر عليه بالسقوط. ولم يتعرض ذلك المبنى سابقاً لقصف مباشر، ولكنه كان يتوسط مجموعة من الأبنية السكنية المدمرة جزئياً بفعل قصف جوي سابق للطيران الروسي وطيران قوات النظام، خلال فترة سيطرة المعارضة السورية المسلحة على أحياء حلب الشرقية.
وهنا، تجدر الإشارة إلى وجود ثغرة قانونية في المرسوم 40 لعام 2012 الخاص بإزالة مخالفات البناء، في حالة تعرّضُ بناء مُخالفٍ مُشادٍ بعد صدور المرسوم للانهيار أو خطر الانهيار. المرسوم 40 قال بأن انهيار البناء المخالف بسبب نقص المتانة عند الإنشاء، هو جريمة جنائية يُعاقب عليها بالسجن والأشغال الشاقة والغرامة. ولكن، المرسوم لم يُشر إلى الأضرار غير المباشرة للقصف السابق كأحد أسباب انهيار المباني المخالفة. وما يجعل من هذه الثغرة القانونية مشكلة كبيرة، أن جميع التصريحات الرسمية المتعلقة بانهيار العقارات المتضررة، وكذلك تقارير لجان السلامة العامة، تتجاهل الأضرار غير المباشرة للقصف السابق، وتؤكد أن أسباب الانهيار هي عدم مراعاة الأبنية المُخالفة لقواعد السلامة الإنشائية. أي، بدل تحميل المسؤولية للمسؤولين فعلياً عن تضرر الأبنية بالقصف، يُحمّلُ المرسوم 40 المسؤولية القانونية عن الانهيار أو خطر الانهيار للمسؤولين عن إشادة البناء المخالف.
وأخيراً، تُشكلُ مخلفات الحرب من الألغام والذخائر غير المنفجرة، تحدياً جدياً أمام استقرار السكان وتضع حدوداً لانتفاعهم من حقوق السكن، الأرض والملكية. ويشمل ذلك مناطق سيطرة المعارضة والنظام على حدّ سواء. إذ يخشى كثيرون العمل في أراضيهم الزراعية، أو سكن بعض البيوت التي تعرضت للقصف بالذخائر العنقودية. وتشكل القنابل العنقودية الخطر الأكبر على السكان، بسبب استخدامها المكثف من قبل قوات النظام أثناء القصف، وانخفاض معدل انفجارها الفوري بعد وصولها إلى الأرض مقارنة ببقية أنواع القذائف، وانتشارها على مناطق واسعة. في المقابل، خلفت بعض فصائل المعارضة في مقراتها العسكرية التي أخلتها، أو في مناطق عملياتها، ذخائر غير منفجرة، تشكل أيضاً عائقا أمام استقرار السكان، وخطراً على حياتهم.