نشوء منطقة عشوائية ونهايتها
في تسعينيات القرن الماضي، توفي مالك أرض سليخ كبيرة على أطراف بلدة محاذية للعاصمة دمشق، فورثها أبناؤه الأربعة. الأبناء تقاسموا الأرض فيما بينهم على الشيوع، وأصبح لدى كل منهم حصة سهمية قدرها 674 سهماً (العقار الكامل مؤلف دائماً من 2400 سهم). الأرض كانت مصنّفة زراعية لا يسمح بالبناء عليها، ولم تكن مشمولة بالمخطط التنظيمي للبلدة.
الملكية على الشيوع بحسب المادة 780 في القانون المدني السوري، هي امتلاك شخصين أو أكثر شيئاً واحداً بحيث تكون حصة كل منهما غير مُفرَزَة “محددة”، وبالتالي فهم شركاء على الشيوع.
الأبناء حددوا فيما بينهم مواضع حصصهم على الأرض، من دون أي توثيق رسمي. وبنى كل منهم منزلاً على حصته، وباع ما تبقى من حصته من الأرض كمقاسم صغيرة للبناء عليها بشكل مخالف. ولأن الأرض مملوكة على الشيوع وغير مفرزة، فالبيع كان دوماً لحصص سهمية من العقار الأصلي، بموجب عقود بيع موثقة لدى الكاتب بالعدل.
وبنى المشترون الجدد على قطع الأرض الصغيرة الخاصة بهم، بيوتاً من دون ترخيص، ومن دون توثيق في السجل العقاري. وهكذا، في نهاية العشرية الأخيرة من القرن الماضي، بدأت منطقة عشوائية بالظهور في تلك المنطقة. إذ على الرغم من كل التغييرات التي طرأت على العقار الأصلي لصاحبه المتوفى، لكن وصفه في الصحيفة العقارية لم يتغير: أرض سليخ. بينما في الواقع صار هناك ما لا يقل عن 25 بناءً طابقياً فيها عشرات المساكن. وصار لكل من مالكي الشقق في تلك المباني، حصة سهمية على الشيوع من العقار الأصلي.
ونمت هذه المنطقة العشوائية في ظل غياب كامل للخدمات الأساسية؛ من شبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي، ومن الطرق وغيرها. ولكن، حاجة الناس المتزايدة إلى السكن، وعجزهم عن تأمين ثمن منازل في المناطق المنظّمة، تظلُّ الدوافع الرئيسية للبناء والسكن في المناطق العشوائية. بعد سنوات زوّدت البلدية تلك المنطقة ببعض الخدمات.
وهنا، تبدأ قصة عمر وأخوته الخمسة المهاجرين من إحدى المحافظات السورية إلى دمشق للدراسة والعمل. الأخوة الستة، تمكنوا من توفير مبلغ اشتروا به في العام 2002 بيتاً في تلك الحارة العشوائية. البيت مكون من طابق واحد، مبني على أرض مساحتها خمس قصبات (حوالي 120 متراً مربعاً). ولأن البيت غير مسجل في السجل العقاري، فإن ملكية الأخوة الرسمية، كانت 21 سهماً على الشيوع من مساحة العقار الأصلي. وذلك، بموجب إثبات الملكية الوحيد الذي بحوزتهم، وهو عقد بيع بموجب وكالة غير قابلة للعزل مُنظّمة عند الكاتب بالعدل. ولأنها حصة صغيرة جداً اتفق الأخوة الستة على تسجيلها صورياً في الوكالة باسم عمر.
مع الوقت وتحت ضغط الحاجة، قام الإخوة بتدعيم البيت، وبناء طوابق إضافية. وهكذا، قبل ثورة العام 2011، بات لدى الإخوة بناء مكون من ثلاثة طوابق تضمّ خمس شقق سكنية. ولكن الوضع القانوني الرسمي لملكيتهم لم يتغير؛ 21 سهماَ مملوكاً على الشيوع من مساحة العقار الأصلية.
لذلك، فكّر الأخوة بإزالة الشيوع لحفظ حقوق كل منهم. وهنا، اصطدموا بوضع قانوني معقد من الصعوبة تجاوزه لسببين رئيسيين: الأول خارج نطاق قدرتهم، وهو متعلق بالبلدية، التي يجب عليها تصحيح أوصاف العقار الأصلي من زراعي إلى سكني، قبل ازالة الشيوع. والثاني، وهو كثرة المالكين على الشيوع للعقار الأصلي. وأمام هذا الوضع المعقد، ولحفظ حقوقهم، نظّم الأخوة عقد محاصصة فيما بينهم حددوا فيه حصة كل منهم وأوصافها، كأن يكون لعمر الشقة اليمينية من الطابق الثاني. ولإكساب عقد المحاصصة نوعاً من الشرعية سجلوه في مديرية مالية محافظة ريف دمشق ودفعوا الرسوم.
ومع دخول الثورة طورها المسلح، واقتراب المعارك بين المعارضة والنظام من المنطقة في العام 2012، نزح عمر وأخوته، وكذلك معظم سكان تلك العشوائية، إلى دمشق، تاركين بيوتهم بما فيها. قوات النظام سيطرت على المنطقة، وسمحت لسكانها بتفقد أملاكهم فقط لمرة واحدة، ولكنها منعتهم من العودة والاستقرار فيها. عمر وأخوته، تفقدوا منازلهم، ووجدوا أن البناء لم يتعرض لأضرار كبيرة.
في العام 2015 اعتقل أحد فروع الأجهزة الأمنية عمر في مدينة دمشق، وباتت محاولات العائلة لإطلاق سراحه بالفشل. وعمر، هو من سجّلت باسمه ملكية جميع الأخوة، أي الأسهم الـ21 على الشيوع من مساحة العقار الأصلي، بموجب وكالة البيع غير قابلة للعزل المُنظّمة عند الكاتب بالعدل.
في العام 2017 اكتشفت العائلة أن عمر قد قتل تحت التعذيب بعد شهر واحد من اعتقاله. ولم تتسلم العائلة جثة عمر، بل قطعة ورق صغيرة لمراجعة مستشفى تشرين العسكري للحصول على شهادة وفاة.
قوات النظام سمحت للسكان بتفقد أملاكهم في المنطقة مرة ثانية فقط في العام 2018، وذلك بعد انتهاء المعارك في الغوطة الشرقية والتهجير القسري للمعارضة منها إلى الشمال السوري. حينها، وجد الأخوة أن المنطقة قد عُفشت تماماً، رغم أنها لم تخرج طيلة سنوات الحرب الماضية عن سيطرة قوات النظام. لا أثاث ولا أبواب ولا نوافذ ولا حمامات مع تخريب كبير طال كل ما تبقى.
بناء العائلة لم يعد صالحاً للسكن، كغيره من المباني في المنطقة. وأفراد العائلة تشتتوا ما بين لاجئين ونازحين. من بقي منهم وحاول العودة للسكن، وجد أن لا قدرة مالية ولا إمكانية لترميم بناء العائلة في منطقة تفتقد لأدنى الخدمات.
يُضاف إلى ذلك، أن عمر تارك خلفه زوجة وبنتين. ولأن لا أبناء ذكور لديه، بات من ورثته كل من زوجته وابنتيه وأمه وأخوته، بموجب الشرع الإسلامي. وهكذا زاد عدد الشركاء على الشيوع في ملكية العقار الأصلي. أمور مماثلة حدثت مع كثير من سكان العشوائية تلك، فزاد كثيراً عدد المالكين على الشيوع للعقار الأصلي، من دون وجود إثباتات رسمية في السجلات العقارية لملكياتهم، ولا حدودها، ولا أوصافها.
هذه الحارة الصغيرة، قد تكون نموذجاً لعشرات العشوائيات في سوريا التي شهدت مصائر مماثلة. حوالي 40% من سكان سوريا يسكنون عشوائيات، الملكية فيها ما زالت على الشيوع. الكثير من هذه المناطق تعرضت لنسب دمار عالية، وتم تهجير سكانها، وباتت حقوقهم في الأرض والسكن والملكية، في مهب الريح.