كيف تغصب الميليشيات الموالية العقارات في ريف دمشق؟
في إحدى بلدات ريف دمشق، اشترى حمود في العام 1993، أرضاً مشرفة على طريق رئيسي بمساحة عشرة هكتارات. الأرض ضمن مخطط البلدة التنظيمي، وتمكن حمود من الحصول على رخصة بناء فيها لمنشأة صناعية، ولشقة سكنية ملاصقة لها. مساحة البناء الكلية تجاوزت 400 متر مربع. حمود المغترب، وضع حصيلة تعبه في المهجر لسنين طويلة، في هذا المشروع الاستثماري، ليكون ضمانة لتقاعده ويورثه لأبنائه من بعده.
لكن حمود، ظل يسافر للعمل في الخارج، ما جعل وتيرة إنجاز المنشأة والبيت بطيئة، ولم يكتمل البناء إلا في العام 2005. حمود لم يرغب باستجرار قروض لاستيراد الآلات المشغلة للمنشأة، وفضّل التمهل في إطلاق مشروعه الصناعي، والاستمرار في العمل في المهجر فترة إضافية، واستخدام مبنى المنشأة في الوقت ذاته كمستودع ومخزن للبضائع. في المقابل، انتهى حمود من تجهيز الشقة وكانت جاهزة للسكن بحلول العام 2011.
موقع الأرض الاستراتيجي، المشرف على البلدة، والمطل على طريق رئيسي، وحجم المنشأة الكبير وطريقة بنائها المتقنة باستخدام الخرسانة المسلحة، جعل من المشروع برمته مغرياً للقوى العسكرية التي تناوبت السيطرة على المنطقة. إذ في نهاية العام 2012، ومع تصاعد وتيرة المظاهرات السلمية في المنطقة، والأعمال المناهضة للنظام، استولت مجموعة تابعة لقوات النظام على أرض حمود، واتخذت من المنشأة مقراً لها، ونقلت إليه عتاداً وذخيرة. ولما اقترب حمود مرة من منشأته، وطلب مقابلة الضابط المسؤول، تم طرده وتهديده بالقتل إن عاد مرة ثانية.
وبقيت قوات النظام في الموقع لأكثر من سنة، قبل أن تتركها أثناء إعادة تموضعها في المنطقة، وتسليمها لمجموعة مسلحة تابعة لميليشيا الدفاع الوطني الموالية. وقامت مجموعة الدفاع الوطنية هذه، خلال فترة استيلائها على الموقع، بتعفيش المنشأة والشقة، وسرقة كافة المحتويات فيهما، بما في ذلك السقوف المستعارة، والقرميد على السطوح. قائد هذه المجموعة المسلحة المحلية، قتل في العام 2015، خلال اشتباكات مسلحة مع المعارضة في المنطقة. ومن بعد ذلك، انحلت مجموعته، وتركت الموقع. في هذه المرحلة، حمود كان في الخارج، وعندما سمع بالخبر عاد ليكشف على الموقع وبطلع على أحوال أرضه ومنشآته.
لكن حمود، تفاجئ باستيلاء ميليشيا مسلحة أخرى موالية للنظام على الموقع. قائد الميليشيا كان قد انتسب مطلع الثورة لأحد فصائل المعارضة المسلحة، لكنه عاد وأجرى مصالحة مع قوات النظام، وشكل ميليشيا محلية مسلحة تعمل بالتنسيق مع شعبة الأمن العسكري. الميليشيا، وعدا عن قتالها ضد فصائل المعارضة، كانت في الوقت نفسه تمارس نشاطات تندرج تحت تصنيف تكتيكات اقتصاد الحرب، من خطف وطلب للفدية، تجارة المخدرات، تهريب الأسلحة وسرقة السيارات.
الميليشيا، وجدت في الموقع ضالتها، واستخدمته كمقر لحجز المختطفين، ولتفكيك السيارات المسروقة وبيعها كقطع، تخزين المخدرات وتوزيعها. الميليشيا، غيّرت شكل المنشأة والشقة، وبنت أقساماً إضافية، وهدمت الجدران في بعض المواقع. ولأن قائد الميليشيا اتخذ من الموقع مقراً له، فقد افتتح فيه مكتباً يستقبل زواره، وكساه بفخامة من مسروقات حصل عليها من مناطق أخرى.
في البلدة نفسها، استولت هذه الميليشيا، بعدما ازدهرت أعمالها التجارية غير الشرعية، على بضعة فلل وبيوت أخرى، واستخدمتها كمساكن لعناصرها وعائلاتهم. معظم تلك البيوت والفلل، تعود ملكيتها لأشخاص معارضين للنظام، أو مغتربين لم يعودوا إلى البلدة منذ العام 2011 بسبب الفوضى والحرب. عمليات الاستيلاء تلك، تعرف يحسب المصطلحات القانونية بغصب العقار، وهو الاستيلاء على ملك الغير دون رضاه، أو وضع اليد على ملك الغير دون توفر سند قانوني بالملكية أو وجود سبب مشروع.
منذ العام 2015، حاول حمود استعارة عقاره بكل الوسائل المتاحة أمامه. لجأ في البداية إلى وسطاء، للتدخل مع قائد الميليشيا. وفي الوقت ذاته، لجأ إلى القضاء وكلف محامياً “شاطراً”. والمحامي الشاطر وصف بات يطلق على المحامي الذي يملك علاقات مع مسؤولين في الجيش والأمن، وبالتالي يتمكن من القيام بدور الوساطة مع الطرف الخصم في القضية عبرهم.
هذا النوع من المحامين، يتقاضى كثيراً من المال، كأتعاب من دون تدوينها بوصول رسمية، وغالباً ما يقول إنها تذهب لرشوة الضباط والمسؤولين والقضاة. المحامي الشاطر، ماطل حمود عامين، وأخذ كثيراً من الأتعاب من دون نتيجة، ومن دون حتى أن يرفع دعوى أمام المحكمة. الوسطاء الآخرون، لم يكونوا أفضل حالاً، ما اضطر حمود لدفع الكثير من الأموال من دون نتيجة.
أول لقاء مباشر بين صاحب العقار وقائد الميليشيا، كان عبر وساطة ضابط رفيع في قوات النظام. الاجتماع تم في المنشأة التي حولها قائد الميليشيا إلى مكتب فخم له. وهناك، يصف صاحب العقار لسيريا ريبورت ما شاهده، بأنه لم يتعرف على منشأته، التي أقيم فيها طابق إضافي، وسلالم متحركة، والحرس ينتشرون في كل المواقع مسلحين، ويتعاملون مع قائد الميليشيا بخضوع وخشوع، ويقبلون يده عندما يمر بهم أو يدخلون مكتبه. يستذكر حمود ذلك، ويقول أن ما شاهده ذكره بمشهد من فيلم عن زعماء المافيا.
الوسيط-الضابط، وكما كان متوقعاً، كان صديقاً مقرباً من قائد الميليشيا، واتضح على الفور وجود اتفاق سابق بينهما. الوسيط-الضابط عرض حلاً وسطاً بين الطرفين، بأن يدفع حمود 150 ألف دولار، مقابل اخلاء الميليشيا للموقع، وذلك للتعويض على ما تكلّف به قائد الميليشيا من تغييرات على العقار. حمود، المصعوق من المبلغ المطلوب، رفض العرض مباشرة، وهم بالخروج. لكن الوسيط-الضابط استوقفه، وعرض عليه، حلاً آخر؛ أن يكتب حمود نصف العقار باسم قائد الميليشيا، ليصبحا شريكه فيها. العرض قوبل بالرفض مجدداً من حمود.
كما تدخل وسطاء آخرون، في مراحل متعددة، ووصلوا إلى شروط مماثلة. حمود، وأمام كل الأبواب الموصدة أمامه، لجأ هذه المرة إلى القضاء، ووكل محامياً آخر برفع قضية إخلاء عقار مغصوب. لم يحضر قائد الميليشيا أياً من جلسات المحكمة، لكنه وكلّ مجموعة من المحامين بالدفاع عنه. الدفاع كان قائماً على ادعاء قائد الميليشيا بشرائه العقار من صاحبه، ولكنه لم يبرز عقد البيع وادعى ضياعه.
فريق محامي قائد الميليشيا قدم عروضاً طيلة فترة المحاكمة لحمود للتنازل عن عقاره، أو دفع ترضية لقائد الميليشيا لإخلائه. ونتيجة ضعف الأدلة، حكمت محكمة البداية لصالح حمود باستعادة عقاره، وكذلك فعلت محكمة الاستئناف. ولكن، في كل مرة صاحبت الضابطة العدلية صاحب العقار لتنفيذ قرار المحكمة واخلائه من غاصبيه، اتصل مسؤول ما رفيع بقائد الضابطة الشرطية ودفعه لترك الموقع وعدم تنفيذ القرار.
وهنا، اضطر حمود، بعد عام كامل من المماطلة في تنفيذ قرار الإخلاء، للاستعانة بضابط رفيع في قوات النظام تدخل عبر ارسال قوة عسكرية واكبت الضابطة العدلية، وطردت الشاغلين منه. ورغم أن حمود استعاد عقاره، إلا أن إشارة منع تصرف على العقار ما زالت موجودة. حمود لا يعرف سبب وجود الإشارة، ويرجح أنها محاولة من محامي قائد الميليشيا لإبقاء الأمور معلقة واجباره على دفع الترضية.