قصة مصادرة “شخصية”
غالباً ما يتم تناول قضايا المصادرة والاستملاك للعقارات في سوريا من وجهة نظر إدارية وقانونية، وغالباً ما يتم تجهيل أصحاب العقارات وقصصهم الشخصية. في هذه القصة الموجزة، تحاول سيريا ريبورت إضافة بعد إنساني على قصة مصادرة حقيقية. لقد تم إخفاء بعض التفاصيل كي تبقى شخصية صاحب العقار مجهولة لحماية عائلته.
ورث كميل عن أبيه أكثر من 4 هكتارات من الأرض تُمثّلُ أفضل قطعة أرض في البلدة وهي الممتدة على طول ضفة النهر. وبات كميل، محسوداً من أقرانه شبان القرية الذين يعملون عنده في مواسم القطاف والحصاد. كما تمكن كميل أيضاً من الزواج بأجمل فتاة في البلدة، بعدما أقنعها الأقارب بأهمية تلك الأرض.
كميل كان فلاحاً مثابراً، يعرف أشجاره واحدة واحدة، وسبق أن أطلق عليها منذ طفولته أسماء صارت معروفة للجميع. فشجرة الخوخ الكبيرة هي المكحّلة، وشجرة الرمان الأشد حلاوة هي سُكّر.
فرحة كميل لم تدم طويلاً، إذ بعد ولادة ابنه البكر، صدر قرار استملاك بستانه مع الأراضي المجاورة له. وبشكل عاجل، قدمت البلدوزرات ومهدت الأرض مقتلعة جميع الأشجار. على أرض كميل تم إنشاء معمل لمؤسسة معامل الدفاع، ساهم في إنجازه خبراء من كوريا الشمالية.
التعويضات “الجيدة” التي وعد بها أهالي القرية، تأخرت أكثر من عشر سنوات. وحين وصلت اكتشف كميل أنها لا تزيد عن ثمن محصول واحد من أرضه.
أذعن أهالي القرية للتعويض المعروض عليهم، لكن كميل رفضه بشدة شاعراً بالإهانة الشديدة والغبن الفادح. وحاول الشكوى ومراجعة المسؤولين؛ ضابط من هنا، مسؤول من هناك، يشرح لهم بحماس قضيته وشكواه. جميع من قابلهم أخبروه أنه لا سبيل له إلا اللجوء إلى للقضاء، لعله ينجح في إعادة تخمين قيمة الأرض والأشجار.
ومع فقدان الأرض، فقد كميل مصدر عيشه، واضطر إلى مزاولة أعمال متفرقة أعانته على ابقاء عائلته وأولاده بعيداً عن الجوع. لكنه لم يفقد الأمل باستعادة أرضه، وأوكل القضية لمحام معروف. وبعد عشر سنوات ربح القضية ورفع قيمة التعويض أربعة أضعاف، قبل أن يعترض محامي الدولة ويعتبر الدعوى باطلة لأنها مرفوعة بالأساس ضد وزارة الدفاع لا ضد مؤسسة معامل الدفاع.
وحين مات المحامي، فقد كميل رغبته بالاستمرار بالقضية.
كبر أبناء كميل، وتخرج أكبرهم كمساعد مهندس، وحالفه الحظ بالعمل في مؤسسة معامل الدفاع. الابن لم يتعب وهو يجيب على أسئلة والده التي لا تتوقف عن أرض لم يعرفها، بالقول: “لم تعد أرضاً يا أبي.. صارت مكاتب وأقساماً ومختبرات”. وتحت إلحاح كميل، دبّر الابن مقابلة للأب مع مدير المعمل، ليعرض عليه قضية أرضه المستملكة التي لم يحصل على تعويضها، فكان رد مدير المعمل: “هذا ليس من اختصاصي”.
بعد العام 2011 توسع المعمل الذي بات منشأة ضخمة تابعة لمركز البحوث العلمية، واشتدت الإجراءات الأمنية حول المنطقة بشكل كبير. وكلما تعرضت المنشأة لقصف إسرائيلي، خلال السنوات الماضية، اعتاد كميل أن يسأل أبناءه، إن كان القصف قد أصاب أرضه.
وقبيل وفاة كميل بشهور قليلة، انتابته رغبة جامحة لزيارة أرضه لآخر مرة. لكن الأمر كان متعذراً كما أخبره ابنه: “غير مسموح بالدخول إلى المنشأة لأي كان”. لكن، إصرار كميل الشديد، وهو مريض في آخر عمره، دفع الابن مجدداً لتأمين موعد له مع مدير المنشأة. لكن، الأرض باتت مخبراً سرياً، والمدير الجديد أجاب الإبن بكلمة واحدة: “مستحيل”.
مات كميل مؤخراً، وماتت معه رغبته الأخيرة في زيارة ما كان يوماً بستان أحلامه.