شهادة: حرموا سامية من منزلها واستمرت الحياة طبيعية في القرية
سامية، من مواليد ستينات القرن العشرين، هي الابنة السادسة لوالدين فلاحين كانا يعيشان في قرية في جبال طرطوس الساحلية. القرية كانت تسكنها عائلة واحدة، في عدد من البيوت لا يتجاوز أصابع اليدين. أهل المنطقة علويّون، يعملون في الزراعة. في سبعينيات القرن العشرين، أتيح لعدد من حاملي الشهادات الثانوية بينهم، ولاحقاً الجامعية، الحصول على وظائف حكومية في مؤسسات القطاع العام والوزارات، في حين ظلت البقية تعمل بالزراعة.
لا زالت سامية تتذكر رحلتها اليومية إلى مدرسة القرية المجاورة. المنطقة ظلت شبه معزولة في طفولتها؛ لا مواصلات، ولا طرق معبدة. فقط، أسراب من الأطفال بأحذية مهترئة يخوضون في الشتاء بالطين والماء.
والد سامية آمن بحقها وأخواتها البنات بالتعلم، إلى حدّ ما، وذلك لتأمين مستقبل أفضل لهن. ولكن، بينما سافر الأخوان الكبيران بعد تحصيلهما الشهادة الثانوية إلى مدينة أكبر للدراسة الجامعية، بقيت الأخوات البنات في القرية “بانتظار النصيب” والزواج. ومع الوقت، كل الأخوة الذكور تزوجوا، وانتقلوا من بيت العائلة، وعمروا بيوتاً قريبة سكنوها. الأخوات البنات أيضاً تزوجن، وسكنّ مع أزواجهم في القرية. في حين لم يقبل الأب تزويج سامية قبل أن تنهي دراستها الثانوية، فمرت السنين وبقيت لوحدها معه ومع أمها في المنزل.
وبوساطة من صديق أحد إخوتها، تمكنت سامية من الحصول على عمل في إحدى مؤسسات الدولة في طرطوس. وباتت حياتها على الشكل التالي: امرأة عزباء موظفة، تعتني وتعيل والديها الذين يشيخان ويعجزان عن إعالة نفسيهما، وتربي أبناء أخوتها، وتساعد زوجاتهن في أعمالهن. سامية وأخواتها البنات المتزوجات، ظللن يعملن بالزراعة في أرض العائلة.
تقول سامية إنها راضية عن حياتها، وتتقبلها، وتضيف أنه كانت محظوظة لأن والدها سمح لها بالتعلم ما مكّنها من الحصول على وظيفة تعينها على وحدتها، وهي التي تعيش بين والديها وأبناء أخوتها وبناتهم، ومحاطة بالجيران. جددت سامية منزل العائلة، وبنت مطبخاً حديثاً، واشترت تلفازاً ملوناً، وأضافت غرفة خارجية لاستقبال الأقارب والضيوف. ومرت الأيام رتيبة متشابهة، حملت ألفة وطمأنينة، وازداد عدد البيوت والسكان في القرية.
تقول سامية: “الحياة اليومية تغشي عيوننا عن تفاصيل لا نريد الانتباه لها. والدي بدأ يشيخ، وكثرت أحاديث أخوتي معه على انفراد. لكنني لم أرد الانتباه”.
في بداية الألفينات، بدأت الرتابة في حياة سامية بالتغيّر، إذ أن الوالد الذي شعر بدنو أجله، قرر التنازل عن كل أملاكه لأبنائه الذكور. وكل أملاكه، هي عبارة عن قطعة أرض كبيرة، فيها منزل العائلة، وبيوت الأخوة الذكور المجاورة. الوالد قسّم الأرض وما عليها بين أبنائه الذكور، وتنازل عنها لهم. وبالطبع، لم يكن العرف يقضي بأن يترك شيئاً للبنات، ولا لسامية. تقول سامية: “نحن، وإن كنا الآن نسكن في قرية فيها ما يزيد عن خمس عشرة بيتاً، إلا إننا لا نزال عشيرة كانت تعمل بالزراعة. والنساء في العشائر لا تورّث أرضاً، فالأرض للذكور القادرين على زراعتها وحمايتها وعدم التفريط بها”.
وتكمل: “رغم أنني، وأخواتي البنات، وبناتهن، وبنات أخوتي الذكور، أضعنا عمرنا في هذه الأرض التي لا يتدخل أخوتي الذكور المتعلمين بشؤونها إلا عند تقاسم المحصول، الآخذ بالتناقص سنوياً”. تضيف سامية: “ومع ذلك، الأخوة الذكور هم الأولى بالأرض، لا بأس، فهذا عرف قديم يسري علينا جميعاً، وأنا لا أحتاج الأرض، لكنني أحتاج المنزل”.
تتهكم على الواقع وعلى وضعها، وتقول: “كأية امرأة أصيلة في مجتمعي، لم أفكر، ولم أناقش، فطالما أعيش في ظل أبي، ماذا يمكن أن أحتاج أكثر”. ولكن، “المكتوب ما منه مهروب”، إذ توفي والد سامية مطلع العام 2012، وتوفيت بعده بأشهر قليلة والدتها.
بعد انتهاء العزاء بوالدتهم، وقبل أربعينها، طلب الأخ الكبير من سامية ترك منزل العائلة ليجهزه لتزويج ابنه الكبير. تقول: “هكذا بكل بساطة. لا نقاش. لا جدال. وكمكرمة منه عرض عليّ السكن في غرفة ملحقة بمنزله، كان تستخدم سابقاً للمؤونة”.
رفضت سامية العرض. لن تسكن في غرفة قديمة في منزل أخيها، ولن تترك منزل عائلتها الذي ولدت فيه وأعادت بناؤه، وجددته. “لكني كنت كمن يصرخ في بئر”، كما تقول. طلبت سامية من أخيها تعويضاً مالياً يساعدها على بناء غرفة خاصة بها على أرض والدها. رفض الأخ مستنكراً جرأة الطرح. تقول سامية: ” أذكر لحظة مطالبتي أخوتي بتعويض مالي. عم الصمت حينها الغرفة، وبدا الذهول على وجه أحي الكبير، وكأنه رأى شبحاً. زوج أحد أخواتي، حاول تلطيف الموقف، ولقنني محاضرة حول المرأة الأصيلة الراضية المرضية، وأن أعصابي متعبة بسبب رحيل والديّ، ولهذا أنطق بهذا الجنون”.
في نهاية الاجتماع، أعطى الأخ الكبير، سامية مهلة أسبوعين لمغادرة منزل العائلة.
تقول سامية: في الأيام القليلة التالية، زارني الجميع؛ وتذكروني فجأة، كل العشيرة. الأخوة والأخوات وأولاد وبنات الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والجيران والجارات والأقرباء القريبين والبعيدين. كلهم جاءوا لإصلاح حالي، أنا المرأة التي سمحت لنفسها بمحاصصة اخوتي الذكور في تركتهم. أحد منهم لم يكترث بأن هذه المرأة الوحيدة، فقدت منزلها، وخصوصيتها وأمانها، ومستقبلها.
خسرت سامية المعركة، واضطرت لمغادرة المنزل الذي ولدت فيه وعاشت. المنزل الذي جددته ورممته، وحسّنته وحافظت عليه. خسرت حقها بالدفاع عنه. تقول: “بعد ذلك، مرة أخرى، عادت الحياة رتيبة إلى القرية وكأن شيئاً لم يكن”.
سامية، رفضت العيش في الغرفة الملحقة بمنزل أخيها، وتقدمت بطلب قرض، بضمان وظيفتها، واشترت منزلاً صغيراً في قرية مجاورة. تضيف: “لم أنته من إيفاء أقساطه حتى الآن”.