أوراق: الحكومة السورية كوسيط عقاري.. دمشق نموذجاً
مع توقف المعارك في العام 2018، لم يعد امتلاك مسكن خاص أمراً متاحاً للغالبية الساحقة من سكان العاصمة. فالأسعار غدت فلكية بالمقارنة مع متوسط الأجور. وبحسب تقديرات مستقلة فإن ذوي الدخل المحدود يحتاجون إلى ما لا يقل عن 200 عام لتأمين سكن، بشرط بقاء الأسعار على حالها وعدم ارتفاعها مجدداً.وبهذا، فقد أصبحت أسعار العقارات المرتفعة عائقاً أساسياً أمام حقوق الملكية.
ويعود ذلك في أحد وجوهه لأسباب غير سكنية، أبرزها المضاربة بين أصحاب المكاتب العقارية “الوسطاء العقاريون” الذين باتوا أبرز مشتري وبائعي العقارات مع انهيار قدرة الناس العاديين على حيازة مساكنهم الخاصة.
في العام 2021، أصدرت السلطات السورية مجموعة من القوانين والقرارات الجديدة التي قالت إنها تهدف لتحقيق مزيد من الشفافية في سوق العقارات وتحسين القدرة على تحصيل الضرائب. وفي التطبيق، مكّنت تلك الاجراءات الحكومة من مراقبة الميدان الأساسي لاستثمارات السوريين؛ العقارات، ولكنها ساهمت أيضاً في استبعاد شرائح متعددة منهم من ذلك الميدان.
قللت هذه الإجراءات الجديدة من المضاربة العقارية إلى حد كبير، وأعطت الحكومة دوراً أكبر في التحكم بالسوق، مما قلل من تأثير وسطاء العقارات في تحديد أسعار العقارات. وفي حين، لم ينعكس التدخل الحكومي في خفض ملموس للأسعار، فإنه حدّ أيضاً من قدرة المالكين على التصرف في أملاكهم نتيجة التخوفّ من الضرائب المرتفعة.
تنظر هذه الورقة في وضع سوق العقارات في دمشق، والأثر الذي أحدثته الإجراءات الأخيرة. ويمكن تعميم نتائج هذه الدراسة على بقية المحافظات لأن الآليات الحكومية وردود فعل السوق هي نفسها إلى حدّ بعيد.
أولاً؛ سوق العقارات في دمشق
لطالما مثّل الاستثمار في حيازة العقارات أو تجارتها انعكاساً لأحد أكثر الطرق أماناً في تصريف الفائض المالي لدى الميسورين من السكان، الراغبين بالادخار. وقد تسبب ذلك بوجود اتجاه دائم لارتفاع أسعار العقارات، خاصة في المناطق المنظمة بدمشق، التي تعتبر الأغلى على مستوى سوريا.
زيادة معدل النمو السكاني خلال السنوات السابقة على انتفاضة العام 2011 لم تواكبها زيادة في عدد المشاريع السكنية الخاصة بسبب الندرة في محاضر البناء المعدة للسكن ضمن مخطط دمشق التنظيمي، ما أدى إلى زيادة الطلب ونقص العرض. كذلك، ازداد الطلب على السكن المنظم بسبب قلة مشاريع الإسكان الاجتماعية الحكومية والتعاونية في العاصمة، وجزء كبير منها لم يبدأ تنفيذه رغم مرور عشرات السنين على إقراره. المشاريع الإسكانية الأكبر ضمن العاصمة وفيها خليط من السكن الاجتماعي البديل والسكن الخاص، هي المستندة إلى المرسوم 66 لعام 2012 الخاص بإحداث منطقتين تنظيميتين ضمن مدينة دمشق، باسيليا سيتي وماروتا سيتي، على أنقاض مساحات واسعة من المناطق المنظمة والعشوائية، المدمرة بفعل العمليات الحربية. وفي كل الأحوال، ما زالت تلك المشاريع في المراحل الأولى من العمل، وليس متوقعاً بأن ترى النور في المدى القريب.
ونتيجة لذلك، تشهد المنطقة المنظمة ضغطاً كبيراً لتأمين السكن لأبناء العاصمة وسط اكتظاظ شديد، وعدم التناسب بين العرض والطلب، عدا عن ضعف القدرة الشرائية للسكان والفجوة المريعة بين الأجور والأسعار.
ويعتبر انخفاض سعر صرف الليرة السورية من العوامل المسببة لارتفاع أسعار العقارات في دمشق. وبحسب رصد السوق في دمشق، فإنه عند انخفاض سعر صرف الليرة من حوالي 3000 ليرة للدولار مطلع العام 2021 ووصوله لأعلى مستوياته في نيسان الماضي بحدود 4000 ليرة للدولار، ارتفعت أسعار العقارات بنسبة 50 بالمئة، لكنها عادت وتراجعت بنسبة 30% مع ارتفاع السعر إلى 3200 ليرة للدولار. وقد ساهم تذبذب أسعار الصرف في هذه الفترة، بزيادة الطلب على العقارات، بنسبة 30 بالمئة بحسب تصريحات رسمية. وساهمت الانخفاضات المتتالية في سعر صرف الليرة بارتفاع تكاليف البناء والإكساء بالوتيرة نفسها تقريباً، لأن نسبة كبيرة من مواد البناء هي مستوردة.
رئيس نقابة عمال البناء، قال في تصريح رسمي في نيسان 2021، أنه خلال السنوات العشرة الماضية ارتفع سعر الإسمنت 30 مرة، بينما ارتفع الحديد 100 مرة. وأضاف أن كلفة المتر المربع على الهيكل، تتراوح ما بين 200–250 ألف ليرة، أما الكسوة العادية فيصل مترها إلى ضعف تكلفة الهيكل.وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك كانت قد رفعت أسعار مواد البناء أخر مرة في مطلع نيسان، بعد مرور 3 أشهر تقريباً على آخر رفع سابق للأسعار. وارتفاع أسعار مواد البناء، وبالتالي أسعار العقارات، تواكب ارتفاع سعر صرف الليرة، ولكنها لا تنخفض مع انخفاضه. وتجدر الملاحظة بأن أسعار وزراة التجارة هي للبضائع التي تنتجها أو تبيعها مؤسسات القطاع العام، ولا ينطبق ذلك على أسعار البضائع التي ينتجها أو يستوردها القطاع الخاص. وفي كل الأحوال، هناك سوق سوداء لمواد البناء تباع فيها المواد التي ينتجها القطاع العام بأسعار مرتفعة.
الوسطاء العقاريون
بالإضافة إلى ذلك، فإن تراجع قيمة الليرة السورية، أدى إلى انتشار حالة مضاربة تجارية واسعة في سوق العقارات، قادها أصحاب مكاتب عقارية كبيرة في دمشق بهدف رفع الأسعار وتحقيق هوامش ربح عالية. وعمل أولئك الوسطاء العقاريون على شراء وبيع العقارات بكثافة، فيما بينهم، بغرض تحريك السيولة المالية في السوق وابقاء الأسعار مرتفعة. وخلق ذلك حالة طلب غير واقعية على العقار لأسباب لم تعد تتعلق بالحاجات السكنية. وقد ساعد في ذلك تدفق أموال مغتربين سوريين إلى هذه السوق، مستفيدة من فرق سعر الصرف. في الإجمال، ارتفعت أسعار العقارات إلى أكثر من %200 في كثير من المناطق ما بين العامين 2019-2021.
وبسبب ارتفاع أسعارها، فقد غدت تجارتها والمضاربة بها عملية مربحة بلا تكاليف تقريباً، باستثناء بعض الرسوم العقارية والضرائب البسيطة. وقد عرفت العاصمة دمشق، كما غيرها من المناطق السورية، انتشاراً غير مسبوق للمكاتب العقارية خلال السنوات القليلة الأخيرة، والتي باتت تعد بالألاف، وبعضها ليس أكثر من مجموعات خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي وغرف الواتس أب. قليل من تلك المكاتب مرتبط بشبكات أكبر تغطي كامل العاصمة، في حين أن الأغلبية الساحقة منها تعمل لحسابها الخاص على مستويات شديدة المحلية. جزء كبير من البيوع تتم بين تلك المكاتب العقارية لأغراض غير سكنية، بل لتحريك السيولة المالية والمضاربة. أبرز سمات تلك السوق هي التنظيم الذاتي، وربط الأسعار بشكل متواصل بسعر صرف الليرة السورية. وفي العرف، يتقاسم البائع والمشتري عمولة بيع تتراوح بين 2 و3 بالمئة من سعر العقار، تُدفعُ لسماسرة المكاتب العقارية.
تلك السوق العقارية بما تجنيه من أرباح، وما تؤثر به على سعر صرف الليرة بشكل غير مباشر، مثّلت تحدياً للحكومة السورية التي أرادت ضبط السوق وتنظيمها، وتحويلها إلى مطرح ضريبي خصب يمكنه رفد الخزينة العامة. لكن، طريقة تدخل وزارة المالية، وشكل الضرائب التي بدأت تطبيق بعضها في أيار 2021، أعطى انطباعاً بأن الدولة أخرجت المكاتب العقارية وأصحاب العقارات من عملية التسعير.بهذا، فالحكومة السورية وبغرض تحصيل المزيد من العائدات، عملت على إضعاف دور المكاتب العقارية، عبر قوانين وقراراتتسمح لها التحكم بسوق العقارات، خاصة في دمشق التي تعتبر عقاراتها الأغلى في سوريا.
وزير المالية قال في تصريحات رسمية، في 25 تموز، بعدم وجود مؤشرات وضوابط واضحة لسوق عقارية قبل صدور القوانين الجديدة وأن سوق العقارات كانت جزءاً من اقتصاد الظل، معتبراً أنها تمثل الوجهة الرئيسية لغسل الأموال لغياب المراقبة أو المساءلة، ومعظم الأموال مجهولة أو مشبوهة المصدر، والأعمال غير المشروعة لا تدخل القنوات المصرفية التي تفرض السؤال والتتبع، فتكون العقارات وجهتها الوحيدة، وتشكل الجاذب الأكبر بغياب المعايير الموضوعية والعلمية الواضحة في الوحدات الإدارية لعملية التسعير العقاري من جهة، وأرباحها المضمونة من جهة أخرى كونه تم الربط بين العقارات وسعر الصرف الذي فسح المجال واسعاً للتلاعب ومهد لارتفاعات متتالية غير منطقية.
ثانياً: القوانين العقارية الجديدة
شهد عام 2021 قيام الحكومة بإصدار العديد من القوانين والإجراءات التنظيمية لتعزيز سيطرتها على سوق العقارات،وفي نهاية المطاف تقييد قدرة بعض شرائح السكان من الحصول على السكن.وبررت الحكومة ذلك بأنه ضرورة للحد من ارتفاع أسعار العقارات وتغيرها المستمر، وأيضاً لتحقيق مستوىً عالٍ من الشفافية والدقة بالتحصيل الضريبي ما يحقق عدالة في التكليف الضريبي بين أصحاب العقارات الرخيصة ومرتفعة الثمن، وبين ما هو سكني وتجاري. وأيضاً، لأن الضرائب والرسوم السابقة لم تعد تتلاءم والواقع الفعلي لأسعار العقارات ما تسبب بالانتقاص من حق الدولة في استيفاء الضريبة المناسبة والعادلة. هذا، بالإضافة تطوير الخدمات العقارية وتقديمها إلكترونياً.
وكان القانون السابق لضريبة البيوع العقارية رقم 41 لعام 2005 وتعديلاته، قد حدد ضريبة بيوع العقارات السكنية ما بين 15-25% من قيمة العقارات المحددة في السجلات المالية. وأسعار العقارات في السجلات المالية هي قيم مالية ثابتة قديمة يعود معظمها إلى أسعار العام 1965 للعقارات السكنية وللعام 1986 للعقارات التجارية، وغالباً ما تكون وفق شرائح محددة لا يمكن تجاوزها. وقد عُدلت تلك القيم لكل العقارات عام 1997 بزيادة 10% فقط. وبالتالي فإن استيفاء الضرائب كان يتم من دون مراعاة القيمة الحقيقية للبيوع العقارية. وفي أحيان كثيرة تكون قيم العقارات في منطقة ما في السجلات المالية، مطابقة لأسعار تخمين العقارات لأغراض الاستملاك من قبل الدولة.
القانون 15\2021
أصدر الرئيس في 29 آذار 2021 القانون رقم 15 لعام 2021 القاضي بتنظيم استيفاء ضريبة البيوع العقارية التي يتم تحديدها بمعدل من القيمة الرائجة للمتر المربع استناداً إلى الوصف المالي للعقار وفق مجموعة من المعايير والعوامل لكل من العقارات السكنيّة أو التجارية أو الصناعيّة أو الزراعيّة أو السياحيّة. وضريبة البيوع العقارية هي معدل من القيمة الرائجة استناداً إلى الوصف المالي للعقار. والقيمة الرائجة هي القيمة الماليّة للوحدات العقارية التي تعتمدها وزارة المالية في احتساب الضريبة. والوحدة العقارية، هي عقار أو جزء من عقار له صحيفة مالية مستقلة لدى الدوائر المالية. وتشكل مجموعة الوحدات العقارية المتجاورة المحدّدة جغرافيّاً، شريحة سعريّة واحدة، يكون فيها سعر المتر المربّع الواحد متماثلاً. وتشكل مجموعة الشرائح السعرية المتجاورة ما أسماه القانون منطقة سعرية. ولتحديد القيم الرائجة والشرائح والمناطق السعرية، نص القانون على تشكيل 3 أنواع من اللجان؛ لجنة فرعية في الوحدات الإدارية، ولجنة رئيسية في مديرية المالية لكل محافظة، ولجنة مركزية يرأسها وزير المالية، ويتكوّن كل من تلك اللجان من ممثلين عن وزارتي المالية والإدارة المحلية والمصالح العقارية ونقابة المهندسين، وتصدر نتائج عملها المشتركة بقرار من وزير المالية. وتقوم اللجان الفرعية في المحافظات بتحديد القيم الرائجة للعقارات داخل المخططات التنظيمية وخارجها، بالإضافة لمعايير التثقيل، ثم ترفع نتائج عملها إلى اللجان الرئيسية التي تقوم بتدقيق النتائج، ثم ترسلها إلى اللجنة المركزية لدراستها والبت فيها.
القانون 15 حدد الضرائب على البيوع بـ1% من القيمة الرائجة للعقارات السكنية الجاهزة، وللأراضي الواقعة خارج المخطط التنظيمي، و1.5% على الأبنية المشادة على الهيكل، و2% للأراضي الواقعة ضمن المخطط التنظيمي. وفي كل الحالات، وضع القانون زيادة سنوية 0.5% عن كل سنة تأخير في تسجيل البيوع. وتصل ضريبة البيوع على العقارات في عمليات الهبة للأصول والفروع إلى 25% من القيمة الرائجة، أما ضريبة التركات فهي 10% للأصول والفروع والأزواج، و25% للأخوة وفروعهم، و50% لبقية الورثة.
مدير عام هيئة الضرائب والرسوم في وزارة المالية، أشار إلى إضافة طريقة منهجية، بموجب القانون 15\2021، لاحتساب ضرائب البيوع العقارية، وتقوم على بناء نظام معلوماتي لتحديد القيمة الرائجة للعقارات. وتعتمد المنهجية على أنظمة المعلومات الجغرافيّة لتكوين قاعدة بيانات عقارية وخريطة رقمية، وبالتالي احتساب ضريبة البيوع العقاريّة آلياً وتخفيض نسبة تدخل العامل البشري إلى أدنى حد. ويتم بموجب المنهجية المعتمدة تحديد مناطق سعريّة، وسعر المتر المربّع في كل منها. الأهم، هو “تثقيل العقارات” للوصول إلى القيمة الرائجة، وذلك باعتماد معايير تعتمد على كل من: المنطقة، المخطط التنظيمي العام والتفصيلي، منهاج الوجائب العمراني، الحركة التجاريّة للعقارات، الكثافة السكانيّة، وصفة الاستخدام (تجاري سكني صناعي مختلط).
في تصريحات رسمية له، أشار وزير المالية إلى أن القاطنين في المالكي وأبو رمانة (أغلى أحياء دمشق) مثلاً يدفعون وفق القوانين القديمة ضريبة قريبة جداً مما يدفعه القاطنون في المزة 86 ووصف ذلك بأنه “أمر غير عادل”. وضرب الوزير مثلاً بأن عقاراً سكنياً في كفرسوسة قيمته الرائجة في العام 2020 نحو 398 مليون ليرة فإن ضريبته بموجب القوانين الجديدة نحو 3.9 ملايين ليرة، في حين أن قيمة العقار ذاته لدى الدوائر المالية بحسب القوانين القديمة هي 47 ألف ليرة وضريبته 7 آلاف ليرة. وكذلك، فإن عقاراً سكنياً في المهاجرين قيمته الرائجة للعام 2020 نحو 486 مليون ليرة وضريبته بموجب القانون الجديد 4.8 ملايين ليرة، كانت ضريبته 8100 ليرة بحسب قيمته المالية السابقة المقدرة بـ54 ألف ليرة. وفي كل الأحوال، فقد حُرمت الخزينة العامة للدولة من تلك المبالغ، التي “كان من الأولى توجيهها لتحسين المستوى المعيشي للمواطنين”، بحسب تصريحات الوزير.
قانونياً، يعاني القانون 15\2021 من ثغرات يبدو بعضها مقصوداً، وبعضها الآخر ناتج عن قصور نظر أو اعتلال في النص. فعلى سبيل المثال، يحظر القانون 15 على المحاكم إصدار أحكام تثبيت البيوع العقارية إلا بعد تقديم وثيقة من الدوائر المالية تُشعِرُ بتسديد مبلغ الضريبة المفروضة. وعدا عن تدخله في عمل القضاء هنا، فالقانون يعطّل تثبيت الحقوق العقارية إلى ما بعد الحصول على براءة الذمة التي تتطلب الحصول على الموافقة الأمنية ودفع الضرائب. من جهة أخرى، نص القانون على أنه “لا تسلم اﻷحكام القضائية المكتسبة الدرجة القطعية ﻷصحابها، ولا تحال إلى التنفيذ، إلا بعد إبراز براءة ذمة مالية للعقار من المالية” وهو ما يحمل تناقضاً. ففي القانون السوري لا تعطى براءة الذمة لـ”غير ذي صفة”، ومشتري العقار لا يعتبر صاحب صفة تخوله الحصول على براءة ذمة مالية للعقار. وبالتالي، قد لا يتمكن الشاري، رغم حصوله على حكم قضائي مكتسب للدرجة القطعية من تنفيذ عملية شراء عقاره، لعدم قدرته على الحصول على براءة ذمة. كما أن الخوف من الضرائب المرتفعة باتت عائقاً يحدُّ من صلاحية صاحب العقار في استعماله والتصرف به. كما يمنع القانون تسجيل البيوع في الدوائر العقارية، أو أي جهة مخولة بذلك رسمياً، قبل الحصول على براءة ذمة مالية لأصحاب العلاقة، من مديرية المالية في المحافظات. أي يتوجب على أصحاب العلاقة، دفع كل المستحقات والضرائب المتراكمة عليهم لدائرة المالية، خلال ثلاثين يوماً من حدوث الواقعة (البيع، الهبة، نقل الملكية) تحت طائلة الغرامات الإضافية. وهذا يعني فواتير الكهرباء أو الماء عن عقارت آخرى لا تتعلق بالعقار المباع، أو ضرائب مستحقة في قضايا أخرى على أحد أطراف العلاقة.
في 29 نيسان، أصدرت وزارة المالية دليل قانون البيوع العقارية بموجب القرار 850/ق و، وذلك بغرض تحديد الإطار العام الواجب لتطبيق القانون 15\2021 وطرق تشكيل اللجان واختصاصاتها، وآليات احتساب القيم الرائجة للوحدة العقارية، والشريحة السعرية ومفهوم المنطقة السعرية. وكذلك شمل الدليل تحديد الإعفاءات والاستثناءات وطرق الاعتراضات ومهلتها.
الموافقات الأمنية وبراءة الذمة
حَظَرَ قانون البيوع العقارية 15\2021، على دوائر السجل العقاري وكاتب العدل، وكل جهة مخولة بتسجيل الحقوق العينية العقارية، توثيق أو تسجيل أي حق عيني عقاري ما لم يبرز أصحاب العلاقة براءة ذمة من الدوائر المالية. ويقترن الحصول على براءة الذمة المالية بالحصول على الموافقة الأمنية، وذلك بحسب تعميم مجلس الوزراء رقم 463 الصادر في آب 2015 والذي قضى بإضافة البيوع العقارية وعمليات إيجار وفراغ المنازل والمحلات في المناطق المنظمة وغير المنظمة، إلى القضايا التي تستوجب الحصول على موافقة أمنية مسبقة. في شباط 2018 أصدر وزير العدل التعميم رقم 14، الذي أضاف البيع بالمزاد العلني إلى العمليات التي تستوجب الحصول المسبق على الموافقة الأمنية.
وتعتبر الموافقة الأمنية من أبرز الانتهاكات لحقوق السكن الأرض والملكية، وأداة انتقامية من معارضي النظام، أو المتخلفين عن أداء الخدمة العسكرية.
القانون 17\2021
في 22 نيسان 2021 أصدره الرئيس السوري القانون 17 لعام 2021 الخاص بتحديد قيم رسوم الخدمات المقدمة في المصالح العقارية. ويعتمد القانون الأسعار الرائجة للعقارات في تحديد وتحصيل رسوم الخدمات العقارية. وكانت المصالح العقارية تعتمد سابقاً في احتساب رسوم خدمات تسجيل الوقوعات العقارية، على شرائح مالية تحددها وزارة المالية، أو على القيم الواردة في عقود بيع العقارات، أيهما أكبر، وذلك بحسب القانون السابق رقم 429 لعام 1948 وتعديلاته. وحدد القانون 17\2021، مقدار الرسوم المفروضة على التسجيل العقاري، كما يلي: 0.001 من قيمة العقار الرائجة لقاء تسجيل معاملات البيع والاستبدال والمبادلة والاختصاص والوصية، والهبة لغير الأصول والفروع والأزواج. 0.00015 من قيمة العقار الرائجة لقاء تسجيل معاملات الانتقال بسبب الإرث والهبة إلى الأصول والفروع والأزواج. 0.001 من قيمة الدين لقاء عمليات الرهن والترقين. 0.0005 من الزيادة الطارئة على القيمة الرائجة للعقار في حساب رسوم تسجيل معاملات الإفراز وتصحيح الأوصاف. وتستوفي المصالح العقارية، بحسب القانون 17\2021، رسم طابع مالي ورسم إدارة محلية، بنسبة 5% للأول و10% للثاني، من الرسوم المنصوص عليها في القانون، أي كضريبة على الضريبة. وصدر القانون 17\2021 بعد نحو شهر على صدور قانون البيوع رقم 15 المحدد لقيم ضرائب البيوع العقارية وآلية حسابها، بما يمثّل استكمالاً له. وبدأ تطبيق القانونين سوية في 3 أيار 2021.
القانون 17\2021 اشترط تسديد رسوم الخدمات العقارية مسبقاً، قبل الحصول على الخدمة. ويجوز استرداد 80% من الرسوم المدفوعة سلفاً في حال لم تقترن المعاملة بالتسجيل في الصحيفة العقارية.
تعميمات وقرارات مصرفية
في 25 ايار 2021، أصدر مصرف سوريا المركزي قراراً يلزم المصارف العاملة باستلام الطلب المقدم من مشتري العقار أو المركبة أو من ينوب عنه قانوناً للتحويل من حسابه إلى حساب البائع أو من ينوب عنه قانوناً.
مجلس الوزراء كان قد أصدر القرار رقم 28 في 24 آذار 2021، محدداً قيمة الحد الأدنى من المبالغ التي يجب إيداعها في الحساب البنكي للبائع، كشرط لقبول توثيق عقود البيع والوكالات في الدوائر الرسمية. القرار حدد ما لا يقل عن 5 مليون ليرة سورية لعمليات بيع العقارات السكنية والتجارية والمركبات، ومليون ليرة في عمليات بيع وشراء الأراضي، بالإضافة إلى تجميد مبلغ 500 ألف ليرة في الحسابات المستخدمة لعمليات البيوع تلك، لمدة ثلاثة أشهر على الأقل. وجاء القرار 28 لتعديل القرار رقم 5 الصادر عن مجلس الوزراء في كانون الثاني 2020، الذي ألزم الجهات العامة المخولة قانوناً مسك سجلات ملكية العقارات والمركبات بأنواعها بعدم توثيق عقود البيع أو الوكالات المتضمنة بيعاً منجزاً وغير قابلة للعزل، قبل إرفاق ما يُشعِرُ بتسديد الثمن، أو جزء منه، في الحساب المصرفي للمالك أو خلفه العام أو الخاص أو من ينوب عنه قانوناً اعتباراً من منتصف شباط 2020.
قرارا مجلس الوزراء رقم 28 و5، يعتبران قيوداً مفروضة على عملية نقل الملكية، والتي لم يتطلبها القانون أصلاً. المادة 825 من القانون المدني اعتبرت أن الحقوق العينية العقارية تكتسب وتنتقل فقط بتسجيلها في السجل العقاري.
مصادر مطلعة على سوق العقارات، أشارت إلى وجود قرار سري صادر عن لجنة مكافحة الفساد وغسيل الأموال في مصرف سوريا المركزي، يمنع حمل ونقل أكثر من 5 ملايين ليرة دفعة واحدة. ولم تتمكن سيريا ريبورت من التأكد من صحة هذا القرار. لكن المصادر أشارت إلى أن نقابة المحامين قد احتجت مؤخراً على عرقلة عمليات بيع للعقارات، بسبب القيود التي يفرضها ذلك القرار، وسعت لرفع سقفه. ويبدو أن القرار موجه للضغط باتجاه إجبار الناس على التداول البنكي، ما يعني سهولة مراقبة حركة المال في السوق. المصادر أشارت إلى وجود تراخ في تطبيق القرار، لكنها أكدت إمكانية استخدامه بشكل انتقائي وانتقامي أحياناً.
ثالثاً: آثار الاجراءات التنظيمية على سوق العقارات
منذ دخول القانونين 15 و17 حيز التنفيذ في 3 أيار 2021، رافق الجمود والترقب السوق العقارية. وتعرضت وزارة المالية لحملة تشكيك في الصحف الرسمية، وأبرزها الوطن والبعث بما تعكسه وتمثله من أجنحة ضمن السلطة السورية، محملة إياها مسؤولية جمود السوق. ورداً على ذلك، بدأت وزارة المالية حملة إعلامية واسعة بغرض الترويج لنجاح تطبيق القوانين العقارية الأخيرة، ظهر في ثناياها إشارات عن الأهداف المرجوة رسمياً من ضرائب البيوع العقارية الجديدة.
إذ تضمنت تبريرات الوزراة بيانات وإحصائيات مختلفة، ومنها أن عدد الحسابات المصرفية التي تم فتحها لدى المصرف العقاري لأغراض تطبيق قرار مجلس الوزراء رقم 28 بلغ 1076 حساباً، خلال شهر أيار. وخلال الفترة ذاتها قالت المصالح العقارية إنها حصّلت رسوم خدمات عقارية بقيمة 737 مليون ليرة. وحتى 8 تموز، تم تنفيذ 11,195 عقد بيع في المحافظات، بمبلغ إجمالي وصل إلى 981 مليار ليرة، وذلك وفقاً للتقرير المفصل الأول عن البيوع العقارية الذي نشرته وزارة المالية في 14 تموز. ولكن، بحسب تصريحات لوزير المالية، فإن حركة البيوع العقارية، قبل تطبيق القوانين الأخيرة، كانت تناهز 30 ألف عملية بيع شهرياً، بمعدل سعري 122 مليون ليرة للبيعة الواحدة.
الأسعار
في دمشق، كشف مسؤول رفيع في مصالحها العقارية، في 22 حزيران، أن البيوع العقارية تراجعت في العاصمة بما لا يقل عن 70%، منذ تطبيق القانون 15\2021، وأن معظم عمليات نقل الملكيات التي تم تنفيذها مؤخراً مبرمة في وقت سابق على تطبيق القانون. وأشارت وزارة المالية إلى أنه خلال شهر أيار، بلغ إجمالي عدد عمليات البيوع العقارية المنفذة في محافظة دمشق 973 عقداً، وإجمالي المبالغ المدفوعة في تلك البيوع وفق القيم الرائجة ما يزيد عن 215.6 مليار ليرة. وكاستنتاج، نجد أن متوسط سعر العقارات المباعة في دمشق، خلال أيار، يبلغ 222 مليون ليرة.
مصادر سيريا ريبورت تمكنت من الحصول على القيم الرائجة للمتر المربع في بعض الشرائح السعرية ضمن العاصمة. ويلاحظ من أن ما أسمته الوزارة “الأسعار الرائجة” لا تتطابق مع الأسعار الرائجة الفعلية التي كانت سائدة قبل تطبيق القوانين. ولوحظ أن لجان تقدير الأسعار الرائجة وضعت أسعاراً أعلى بنسبة 20-35% من الأسعار الفعلية في أكثر من منطقة، بينما كانت قريبة من الواقع في مناطق أخرى. على سبيل المثال، سجلت منطقة المالكي السعر الأعلي بين الأسعار الرائجة بواقع 20 مليون ليرة للمتر المربع وهذا قريب من السعر الفعلي، في حين ارتفع سعر المتر المربع في منطقة شعبية مثل مزة جبل إلى 4.5 مليون ليرة، بزيادة تقترب من 35% تقريباً عن السعر الفعلي.
وبلغ على سبيل المثال، سعر شقة بمساحة وسطية ما بين 120-170 متر مربع، ما بين 3-5 مليارات ليرة غربي المالكي، بينما في تنظيم كفرسوسة وأبو رمانة بحدود 2-3 مليار، وزادت عن المليار في مزة فيلات غربية، وفي كورنيش الميدان ما بين 800 مليون ومليار ليرة. في مزة ومشروع دمر وتجارة بلغت بحدود 500-800 مليون ليرة، بينما في البرامكة ومساكن برزة والميدان والزاهرة ما بين 400-600 مليون، وفي دف الشوك ونهر عيشة ومزة 86 وقدسيا وبرزة أقل من 200 مليون.
من جهة ثانية، فقد كان عرفاً سابقاً بأن تكاليف فراغ العقار على المشتري، بينما تكاليف براءة الذمة على البائع. ولكن بعدما ارتفعت قيم تلك الضرائب والرسوم بشكل كبير، فقد بدأ الباعة بتحميلها للمشترين. وفي كل الأحوال، مصادر مطلعة على عمل بعض أهم المكاتب العقارية بدمشق، شككت خلال حديثها لسيريا ريبورت، بأرقام وزارة المالية حول عدد المبيعات وقيم البيوع في دمشق، وأشارت إلى أن العاصمة لم تشهد أكثر من بضعة عشرات من البيوع خلال شهر أيار، في حين تحسن الوضع جزئياً في الشهور اللاحقة.
مصدر مطلع من دمشق، أشار إلى أن أبرز أسباب جمود السوق، تعود إلى خشية أصحاب العقارات خاصة مرتفعة الثمن، من البيع. ويعود ذلك لسبب تقني، يتعلق بسقف السحوبات من البنوك المحددة بمليوني ليرة يومياً فقط، ما يتطلب من صاحب عقار سعره مليار ليرة لسنتين على الأقل لسحب المبلغ. في حين أن استلام مليار ليرة خارج البنك، تعني بالحد الأدنى سيارة شحن تنقل تلك الأموال، بحراسة أمنية، وما يستجره ذلك من مخاطر في تخزينها. هذا، عدا عن مخالفة القرار الأمني الذي يمنع نقل أكثر من 5 ملايين ليرة دفعة واحدة. وعلى سبيل المثال، يتوجب لنقل أكثر من 5 ملايين ليرة، وجود تصريح من المصالح العقارية المعنية، وموافقة أمنية.
الفصل الرابع: من هم القادرون اليوم على شراء العقارات في دمشق؟
ليس من الواضح مدى تأثير الإجراءات الأخيرة على قدرة معظم السكان السوريين على امتلاك عقارات في دمشق وبقية البلاد. قبل أي شيء آخر، فهي أداة إضافية للحكومة لتوليد المزيد من الدخل المالي، من بين العديد من الإجراءات الأخرى التي تتخذها لتحصيل المزيد من الإيرادات، وكذلك هي وسيلة أخرى للسيطرة على السوق والسكان.
سيؤدي الارتفاع الحاد في مقدار الضرائب المدفوعة إلى ردع الكثيرين على المدى القصير، لكن تأثيره سيكون أقل أهمية على المدى الطويل حيث يدرك الكثيرون أن معدل الضريبة بنسبة واحد بالمائة يظل تكلفة صغيرة للحفاظ على مدخرات الفرد من التضخم وانخفاض قيمة العملة. في حين أن المراقبة المتزايدة للمعاملات العقارية بالإضافة إلى تقييد المعاملات النقدية ستردع المشترين المحتملين.
إن الارتفاع المستمر في تكلفة البناء، وضعف برامج الإسكان الاجتماعي والتعاوني، وانخفاض الإيرادات ومعدل التضخم المرتفع، والرقابة الأمنية المعززة، ستبقي العديد من السوريين محرومين من حقهم الأساسي في السكن والملكية. ويضاف إلى ذلك أن عملية التسعير وفق القيم الرائجة، تسببت بتثبيت الأسعار، رغم التعهدات الرسمية بمراجعتها دورياً في اللجان المتخصصة. لكن، وبمجرد دخولها نفق بيروقراطية المؤسسات الرسمية، فقد فقدت السوق آلياتها العفوية، وباتت مرهونة بقرارات حكومية. وبهذا، فالتدخل الحكومي لا يبدو مهتماً بخفض الأسعار، وبالتالي، ليس موجهاً لتحسين قدرة الناس العاديين على حيازة سكن خاص.
وهنا، سيكون مرة أخرى الطرف الأضعف في هذه المعادلة هو من يريد حيازة منزله الأول. وزارة المالية، لم تلحظ أبداً هذه الشريحة من المشترين، ولم تقدم لها أي تخفيض ضريبي. إذ ليست الوزارة في وارد الفصل بين من يشتري منزلاً ليسكنه، وبين من يتاجر ويضارب بالعقارات، ما يزيد فعلاً من الشكوك بأهداف الضرائب الحقيقية.
ومن جهة أخرى، لا يجد أصحاب رؤوس المال وتجار العقارات وأثرياء الحرب وأمرائها من موظفين حكوميين وعسكريين وأمنيين، من سبل أفضل لاستثمار أموالهم والحفاظ عليها غير العقارات. وبالتالي، بالنسبة لهذه الشريحة، فإن الضرائب مهما ارتفعت، يمكن إعادة تدويرها في الدورة المالية للسوق. التدخل الحكومي في سوق العقارات يبدو موجهاً للاستفادة من الثروات التي راكمتها هذه الشريحة من تجار الحرب غير المعنية بارتفاع الضرائب والأسعار، طالما هي مجبرة على بيع وشراء العقارات لتحريك ثرواتها بالليرة السورية.
وفي كل الأحوال، يبدو النازحون والمهجرون قسراً من أنصار المعارضة، من أصحاب العقارات في المناطق المنظمة بدمشق، هم الفئة الأكثر قابلية لبيع عقاراتها في المرحلة المقبلة، مع زيادة المخاوف من فرض الحجوزات الاحتياطية على أملاكها أو عدم منحها الموافقات الأمنية اللازمة. في حين، يبدو أن النازحين والمهجرين قسراً من دمشق، من أصحاب الحقوق العقارية في مناطق العشوائيات، أو مناطق تطبيق المرسوم 66\2012 والقانون 10\2018، متروكين في مواجهة قرارات محافظة دمشق الجائرة وسط عجزهم عن إثبات حقوقهم لأسباب أمنية.
مازن عزي
رئيس قسم حقوق السكن والأراضي والممتلكات.